اليوم وأثناء انهماكي في العمل ؛ إحدى المعاملات كانت بحاجة لأن أنجزها بسرعة كبر نظراً لتقدم صاحبها في السن ،،،
جرس الجوال ينطلق بإلحاح ، أحاول تجاهله ولكن المتصل نادراً ما يتصل بي ، وكذلك مع إلحاح الموجودين عليَّ بأن أرد ،، أخيراً استجبت لهم ورددت على الهاتف ، جاء الصوت مرتعشاً : ( أحمد أنا آسف ، ولكن اتصل بي ابن عمي ؛ ويقول بأن صديقك فلان قد توفاه الله اليوم ) ،،، سمعت الخبر ،، لم أصدق بادئ الأمر ،، ثم أعدت عليه السؤال ببلاهة تامة : (من هو الذي توفي اليوم ) ،، صديقك فلان ،، ( كيف يعني ؟؟!! ولماذا ؟؟!! ) أسئلة غبية ولكنها الصدمة التي تحركت على لساني فانطلقت هذه الكلمات بغير إرادة مني ،،،
والله لا أدري أي شيء ابن عمي اتصل وطلب مني أن أخبرك ،، خذ هذا رقم هاتفه اتصل به وافهم منه ،،
تظاهرت أمام الناس أن شيئاً لم يحدث ،، ولكن الدموع غلبتني ،، كنت أنجز المعاملة التي بين يدي وقطرات الدمع تنساب عليها ،، أهز رأسي بأسى : ( تفوووو يا دنيا ،،، غرورة ،،،)
آآآآآآه يا صديقي الوفي ، يا من جمعني وإياك هم الغربة في هذه الدنيا ،، قبل إحدى عشرة سنة ونحن نتجهّز للامتحان العملي ؛ جلست إلى جواري تماماً على المقعد المجاور ، قمت تشرح لي إحدى المسائل ، نظرت إليك بحب كبير وقلت في نفسي قريباً ستنتهي دراستنا معاً ،، قريبا ستفرقنا الدنيا ،، من يدري يا صديقي قد لا نلتقي بعد التخرج مطلقاً ،، تصرفت كعادتي بجنون غريب ،،، قلت لك : ( فلان ) أغمض عينيك !!! مسكين أنت يا صديقي ،، أغمضت عينينك كلتاهما فوراً معاً ولم تعلم ما أخفيه لك ،،، أغمضت عينيك فعاجلتك بصفعة قوية على خدك الأيمن ،،، أجل هكذا وبكل جنون ،، كان صوت الصفعة مدوياً جداً ،، التفَّ الزملاء والأصحاب حولنا بذهول تام ،، فقد ظنوا أن نزاعاً حدث بيننا ،، وأنت أيضاً نظرت إليَّ بدهشة ،، ثم احتضنا بعضنا بعضاً بحب أخوي في الله عظيم ،، والكل حولنا لا يدري ما الذي جرى ،،،
عدت إلى البيت وتذكرت ما حدث مني من موقف مجنون ،، ضحكت ،، والدتي الغالية تنظر إلي باستغراب فمنذ فترة طويلة لم أضحك !!! سألتي عن السبب ،،، أجبتها بما كان مني اليوم معك يا صديقي ،،، أنبتني والدتي كثيراً ووبختني جداً ،، ثم قالت : هب أنه رد لك الصفعة بمثلها أمام الشباب ؛ أكان منظراً ترضاه لنفسك ،،، أجبتها بكل ثقة : ليس أخي هذا من يفعلها معي !!! ،،،
تذكرت الألقاب التي كنا نطلقها عليك أثناء دراستنا معاً ،، تذكرت صفاء روحك يا أخي ،، تذكرت عندما مرت محبوبتك من أمامنا وكنت تمد رجليك على قارعة الطريق ،، يومها من شدة حيائك وخجلك ضممت رجليك إلى صدرك ،،، ضحكنا منك يومها واتهمناك بشتى التهم ( محكوم من الآن ،،،يا عيني على الطاعة العمياء ،،، ) ،،،
منذ فترة وأنا أريد زيارتك ولكن الدنيا تأخذني عنك ،، صدقني يا أخي منذ عدة أيام أريد أن اهاتفك بالهاتف ولكن شيئاً ما يمسك يدي ،،، اليوم ومنذ الصباح افتقدتك بشكل كبير وعلى غير العادة ،، قلت عندما يرتفع الصباح سأكلمه ،، فحتماً هو الآن نائم ،،، ارتفع الصباح وأخذني العمل حتى عاجلني هذا الهاتف المشؤوم يزف لي خبر السوء ،،، الدنيا تضيق في عيني وكلتا يدي ترتجفان ،،
أنظر حولي الناس تحملق في وجهي فكأنها قرأت الخبر بكل وضوح ،، أحد الزملاء يسألني ،،، أردت أن أقول له ولكن حنجرتي تشنج الصوت فيها ،،، اختنقت بالعبرات ولم أنبس ببنت شفه ،،،
ليس عندك أي شيء أنت بكامل الصحة والعافية ،، كيف مت وتركتني وحدي ؟؟!! معقول حادث سير ؟!! أكيد حادث سير ،،، هذا هو السبب الوحيد !!! فأنت شاب نشيط وصحتك جيدة ،،، أنت لم تتزوج إلا حديثاً ،،، قبل فترة عندما زرتني وزوجتك الكريمة ، قلت لك توقف حتى أوصلك بالسيارة ،، قلت لي لا بأس أريدها أن تمشي فهذا أفضل لصحتها لأنها ستلد قريباً ،، قلت لك دعها تمشي غداً أما اليوم فسأوصلكم بنفسي ،،، قلت لي لا خليها تولد وتخلصني ،،، بعدها اتصلت بي يا صديقي ،، وبشرتني بأن الله وهبك بنت أنثى جميلة ورائعة ،،،
أخي الحبيب تبت الدنيا الحقيرة التي شغلتنا عن كل خير ،،، هكذا هم الأطهار يرحلون بسرعة ويتركوننا نرعى مع شرار الخلق ،،، ليتني عملت في دنياي صالحاً ألقى به ربي بدلاً من ضياعي خلف سرابها كل هذي السنون ،، أيتها الدنيا الدنيئة أعترف بأني أكرهك ،، أكرهك جداًً،،،
جلست لا أقوى على مسك الهاتف والتأكد من الخبر من ابن عم المتصل ،، جلست أحاول تمالك أعصابي لفترة ليست بالهينة ،،، وقمت أروي حكايتي معك لزميلي الذي يجلس بقربي فتخنقني العبرات التي أحاول جاهداً كتمها وحبسها عن الناس ،،،
فجأة قلت لنفسي لماذا لا يكون هذا مقلباً من مقالبك الكثيرة ،،، أجل ربما كان مقلباً من مقالبك ،، فهذا ليس ببعيد عن طباعك المرحة ،،، ولكنها ستكون مزحة ثقيلة الدم ،،،
غالبت نفسي وأمسكت بالهاتف أتصل بابن عم من بلغني الخبر :
- السلام عليكم ،،
- وعليكم السلام ،،،
- صحيح الخبر الذي سمعته ،، أم أنك كنت تمزح !!
- لا والله الخبرصحيح ،،
- لكن كيف ؟؟!!! ما الذي حدث !!! ،،، وخنقتني الدموع ،،،
- ألم أقل لك أنه مصاب بالسرطان ،، وأن حالته كانت مستعصية جداً ،،،
- من الذي كان مصاباً بالسرطان ؟؟!!!
- شقيق فلان !!! لقد أخبرتك ،، ما بك ؟؟!!
- من الذي توفي ؟!! فلان أم شقيقه المريض ؟؟!!!
- لا بل شقيقه المريض بالسرطان !!!
- لقد وردني غير ذلك ،،، لقد ظننته هو !!!
- لا يا رجل !!!
- شكراً لك ،،،،
أغلقت الهاتف وأنا لا أدري ماذا أفعل !!! شتمت نفسي ،،، وشتمت زميلي الذي ينظر إلي ،،، سارعت بالاعتذار إليه فأنا حقاً أتصرف بغير وعي ،،،
دبت فيَّ الحياة والنشاط من جديد فكأني قد خرجت من قعر بئر سحيق مظلم للتو وكأن الله تعالى قد أعطاني فرصة جديدة لكي أصلح ما فات من عمري ،،،
نظر إلي زميلي باستغراب : ولكنه شقيق صديقك !!!
- بلاء أهون من بلاء ،، ومَصاب أهون من مَصاب !! أخس على الدنيا الغرور !!!!
( أخوكم أحمد أبو خضره - اليوم 24/10/2010م - الحقوق محفوظه )
سوف أجعل هذه الخاطرة أول ما أكتبه من مجموعتي الجديدة (أنا والفراشة ) شاكراً الله أن سلم لي أخي في الله ،، وحفظه لزوجته وابنته ،، وتاكاً العبرة لنفسي ولمن اعتبر بهذا الخبر ،،،