----------------------------------------------------------------------------
بحثاً عنك عبد الرحمن
بقلم ( الأندلسي )
إذا كنت سائحاً فزر حمراء غرناطة وجنة العريف في النهار، وإن كنت شاعراً فزرهما في الليل، وإن لم تكن شاعراً فلا تبتئس لانك ستنزل التل وأنت تكتب الشعر.
وفي الليل تسطع الأضواء في كل زوايا الحمراء ولا تسمع إلا الأقدام تنتقل على بلاط القصر كخفيف المطر، ولا تسمع إلا حفيف الاشجار وخرير الماء الساقط على القنوات من مكان مجهول فتتصور أن فرسان الحمراء خرجوا اليك يعاتبونك على هجر لا يستحقونه لكنك لا تملك إجابة ولا قدرة على هدهدة مخاوفهم من هجمة صليبية اخرى، وتعرف ان أوغاد قشتالة سيأخذون القصبة والقصر وجنة العريف سلماً قبل ان يطلع الفجر لأنهم لم يأخذوها عنوة بعد عشر سنين من الحرب.
وفي الليل تسمع الاسباني العجوز يصرخ فجأة «آه غرانادا! كواندو رغريساران سوس نينوس إكزليادوس»، فتسأله فيقول انه حفيد المواركة خوان الفونصو البيريث كارلوس خيسوس باليث الونثو عبد الله البلنسي الكاتب ينتظر هو ايضا ان يتذكر شخص ما أن هذا قريبه وابن عمه البعيد وربما شقيقه الضائع من أربعة قرون.
وما قصتك؟
ويتعجب الاسباني العجوز فيقول: قصتي؟ قصتي قصة الانتظار؛ انتظار عبد الرحمن؛ أم تريد ان تقول انك لا تعرف عبد الرحمن؟
أجبت انني أعرف عبد الرحمن لكني لا أعرف قصته فقال انها مكتوبة على كل جدران الليل في الحمراء وأردف متسهجناً: ألا تستطيع قراءتها؟
نظرت حولي فلم أر شيئا.
اشتد عجبه وقال: أنت تنظر بعينيك وطالما نظرت بعينيك فلن ترى شيئا؛ غص في الداخل ثم انظر وسترى القصة كاملة.
وانتظرت قليلاً ثم بدأت أغوص في السنين وبدأت الحمراء تلتف عليّ شيئاً فشيئاً حتى اكتمل المشهد، وجحظت الكلمات في عيون جدار الليل في الحمراء.
ويكاد يخيل لك وأنت تجلس الظلمة في جنة العريف أن ابن الاحمر خارج إليك في أية لحظة يشتكي سبعمائة سنة من الانتظار،
أو أن ارتطام الحفيف بالحفيف أقدام الجند تضرب حصى القصبة متعبة في الطريق إلى البرج الكبير
أو ان البوابة ستنفتح في غمضة عين وعليك يطل وجه الصبية التي انتظرت منذ اليوم الثاني من سنة اثنتين وتسعين واربعمائة وألف،
ولما تخرج الصبية،
ولما تتمكن من الابتعاد عن مدخل القصر،
فأنت هناك حي متوفى لا تستطيع الحركة لأنك أسير الصبية،
وأسير حلم مجيء عبدالرحمن.
وتنزل مالقة فتحل مع الألوف وجهاً غريباً يبحث عن وجه مألوف يشبه وجه عبدالرحمن، أو مبنى تذكر أنك رأيته منذ ألف عام أو أكثر، والقصبة في مدينة الرصافي الشاعر تظل ثانية الماء الأزرق هناك حيث نزل الفينيقيون قبلك فتبددوا ثم أهل إنقليش وغاليش، وجئت انت تبحث عن عبد الرحمن فما وجدته، لكنك أحسست بثقل الوقت عند الدرب المؤدي الى القصبة في مالقة.
«يا الله!»، تقول، «يا الله! كنتُ هنا قبل ألف عام وأذكر كل شيء فمن يذكرني؟»
ويدفعك الاكتظاظ والبحث بعيداً عن سائحات فرنسة واسكندنافية سالكاً الطريق قرب البحر نحو الجنوب وعبد الرحمن. وتسال العجوز الاسباني عن الطريق الى الجبل بلغة أهل انكلترة فيهز الرأس يشتكي جهل ما تقول وتردد جبل طرق فيبتسم ويشير الى المكان قرب البحر .
وهو صخرة. قال الفينيقيون الساميون ان اسمها «قلبه» لكن اليونان حرفوه ليتناسب ولسانهم فقالوا «كلبه»، وأنها الحصن الشمالي لأعمدة هرقل لا يعرف أحد ما بعدها هناك في البحر المحيط الاخضر الاسود بحر الظلمات حيث توقف عقبة ثم نزل طارق بجنده قرب الجبل يوم الثلاثين من الشهر الرابع من سنة إحدى عشرة وسبعمائة فلم يستعدها قسمان الصالح الا بعد واحد وخمسين وسبعمائة سنة، لكنه لم يستعد اسمها فبقيت الصخرة هناك تئن في ليالي الريح باسم طارق المذبوح في دمشق، وترتد باتجاه قرطبة وعبدالرحمن.
وفي طريف ينخلع القلب؛ تتمزق قسراً وعن رغبة وأنت قرب الأسوار فتتجه غرباً الى رقعة الشاطئ حيث نزل النخعي يسبر قوى شبه الجزيرة. وفي طريف ترى بداية الطريق كما رأيت في الوادي السعيد بوابة الصخرة عند شنيل والبحر نهايته، وتطلعت الى غرناطة كما تطلع الملك الصغير من قبلك وبكى. قبض وعدّ وبكى، وسلم هو ومات الوطن، ثم رحل يبني القصور في المنفي ويسرد قصة الشعب الضائع المضاع عندما سلم أمره الى فرندة. باعهم ونضالهم وقبض وعدّ وبكى ورحل الى العدوة بعدما مهر باعوجاج خطه قصة بيع ألف قرية وقرية.
وقادس في الجنوب عمرها الراحلون من الخليج قبل ثلاثة الاف عام ثم أذهبهم الرومان عنها، وحل العرب فيها فاقاموا وعمروا ثم اختفوا فما بقي من آثارهم شيء. وما دمت تبحث عن عبد الرحمن فأنت عائد الى شذونة، وأنت راحل صوب قلعة الوادي، وراحل صوب مقلة وغرناطة والمدور وألف قلعة اخرى بناها العرب خوفا من أعدائهم واصدقائهم ثم تلاشت واختفت كما اختفى الرجال. أو هكذا تظن إلى أن تسمع القلعة الرابضة في الوادي تئن باسم المنصور المعافري وتهمس: يا عبد الرحمن الداخل… الداخـ… الدا، الدا، الدا----
وهي (هيبالس) عند اليونان ومستعمرة أهل آيبرية ممن قدموا بادئ ذي بدء من العدوة. وهي مدفن كولومبس الكشافة الأول الضائع في طريقه الى الهند، وقلعة محاكم التفتيش والبرج الذهبي والمأذنة والقصر، وكانت إشبيلية ايام العرب: بوابة النخيل، وهي هناك عند مدخل المدينة تذكر بالعمالقة وتبعث الرهبة والدهشة. الرهبة لمصير فاتحها موسى وقد ساق مواكب العذارى الى دمشق فما عاد ولا العذارى. والدهشة من نهر الوادي الكبير الذي يمزق المدينة مزقتين كما تمزق الوجود العربي في آيبرية مع الطوائف والمرابطين والموحدين والعباديين والنصريين وأهل الاحمر وكل الصعالكة، وأهل إنقليش وغاليش، ورهط الأذفنش والهنش والفنش وفراندة وهراندة والفرذلند وسفن اقريطش وبيشة والدانمارشة، وجيوش نبارة وقشتالة وأرغون والبرطقال ، والجبال والمولدون وعمر ابن حفصون والمعاهدون المنقلبون وأهل الثغور والجحور، وصاحب رومة وازابل وزمنيز وابن النغريلة والهلفي رباه! أكلما عصى قوم وفروا قلنا لهم أهلا فشكروا الى حين ثم انقلبوا ومزقوا وقتلوا وتآمروا وباعوا اهل الييت لغريب آخر!
ومن يعرف دمشق،
آه، من يعرف،
من يعرف دمشق يعرف قرطبة، ومن يعرف قاسيون والأموي وحي المنصور والمتوكل والعرب والأزقة الضيقة يعرف دمشق وقرطبة ويعرف جبل قرطبة والمسجد الكبير وحي المنصور في عاصمة الخلافة الاموية ويعرف كل الازقة ورائحة الزمن المحبوسة في الغرف. ومن يعرف المحراب والصحن المرصع بأشجار الناريج لا شك سينهار بكاءً على ضياع المسجد كما بكي الملك الصغير. وتشدك اللهفة الى الداخل فتجد الكنيسة هناك وتذكر قول شارلكان للعريف ”أشدت في المسجد ما كنت تستطيع ان تقيم في اي مكان آخر لكنك خربت مسجداً لامثيل له على الارض!“، أو هكذا قيل على لسان القحب الكبير.
وتحملك قدمان مثقلتان بأحزان ألف عام الى بوابة المدور وزقاق المنصور، وتتجه يميناً نحو تمثال اليهودي المستعرب ابن ميمون وهو شاخص الى السماء، وتعبر الى حان الرباعيات في الزقاق الضيف وتذكر كيف كانت قرطبة عاصمة لمليون ساكن مثل عاصمة الخلافة العباسية، ثم الى نصب ابن رشد وعبد الله الغافقي وحكيم الرومان وقصر الملوك والزمن الماضي وتتوقف ويتوقف الزمن معك.
ينفطر القلب .
كل ما ضاع يمكن أن يضيع مرة أخرى إلى أن يأتي عبد الرحمن.
وأمام بوابة المدور تعاين نصب الكفين: ابن زيدون الشاعر وولادة وغوص في التاريخ نسيناه فما غاب عن بال أهل قرطبة وتقرأ:
أغار عليك من عيني ومني ومنك ومن زمانك والمكان
ولو اني خبأتك في عيوني الى يوم القيامة ما كفانـي
ويرد ابن زيدون واليد ممتدة دون أن تلامس اليد:
أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينـا
يكاد حين تناجيكم ضمائرنــا يقضي علينا الأسى لولا تأسّينا
وفي الشمال اعتدوا على اخته وحريته فقصد الصخرة واحتمى بالكهف يرد ارتفاعه الأسهم والغيظ والسيوف، وبنى ملكاً وحمل السيف ومن معه ووراءه سبعة قرون إلى أن فشل أهل الأندلس وسقطت غرناطة وانتهت سيرة قرطبة وعبدالرحمن والمنصور وملايين ماتوا دفاعاً عن وطنهم في الجنوب. وحده بلاي حمل السيف عندما أسقطه الباقون، ولخلفه من بعده كان الانتصار لكن ليس قبل ان يدفن المنصور في مدينة سالم، وليس قبل أن يقول أهل الشمال: «اليوم توفي المنصور ودفن في الجحيم
وبنو رزين المدينة في الوادي هاربة من عهد الأندلسيين وبطش أهل الشمال. وبنو رزين مذاق أندلسي في باييلا إسبانية يوم ضيعت الأندلس فاصبحت آيبرية بلا مذاق. وبنو رزين مدينة حنا عليها التل يوم اختفي الحنين ولم يعد إلا السيف جائراً ومجيراً ومثلها مدينة قلعة أيوب صابرة على منازلها في بطن التل تذكر بمصير أهل الدجن ممن غلبت النصارى على وطنه ولم يهاجر».
وبين هجرة عبد الرحمن والهجرة الأخيرة ثمانية قرون تبدد بعدها ما بناه عبد الرحمن.
وحده موسى بن ابي الغسان اختار الاحتجاج على تسليم غرناطة، ووحده حمل السيف والدرع وخرج من الحمراء الى حمراء اخرى، وقرب شنيل كان له لقاء مع فرسان الشمال فقتل وقتل وسقط عن جواده جريحاً ينزف ثم رمى بجرحه في النهر وغرق. وحده موسى بن أبي الغسان اختار الطريق السهل وترك للملك الصغير الاختيار الأصعب، وتحقق لموسى الخلاص يوم بدأت المعاناة في غرناطة وجبال الجنوب وبلنسية والمرية في الساحل الشرقي.
وتسأل الجبال في الجنوب: أين أهلك؟ فلا ترد. صمتت مع صمت الأندلسيين ممن نفاهم الثالث فيليب بعد ثورتين، في قرنين. وأين هم الآن؟
اسألوا شواطئ المغرب وأحياء تونس وزغوان والحمامات وأرزو وفاس وتطوان والقسطنطينية العظمى وليفورنو وجنوة؛ اسألوا سيوف الأعراب الاخوة ممن نزلوا على الأندلسيين المنفيين فشقوا بطونهم بحثاً عن أحجار كريمة في وقت غير كريم فما وجدوا سوى الشوق إلى وطن لا يعرفونه هرباً من جحيم يعرفونه. هؤلاء هم غجر التاريخ: حتى الاسم لا يعرفونه فهم «الموريسكيون» أو «المتنصرون» أو «المواركة والأفضل إلا تسألوا أحداً لئلا يقول: انظروا اليوم ما تفعلون فتروا الماضي.
نبحث عن عبد الرحمن.
أنت وأنا.
نبحث عن عبد الرحمن أنت وأنا وهو وهي وكل الضمائر الأخرى في زمن بلا ضمائر. كلنا وكل الجالسين في شرفة البيت نحدق في الغروب وننتظر عبد الرحمن.
وهو في قرطبة.
تجلس وهو واقف، تتحرك وهو جامد في مكانه فوق قرطبة،
تتنفس وهو مطبق على آخر نفس دخل صدره.
وتريد أن تبكي لكنك لا تستطيع.
فجأة تشعر بالحقد على عبد الرحمن لأنه جاء وراح ولم يعد مرة اخرى وانت ما تزال تنتظر. سقطت قرطبة ألف ألف مرة ولما ينهض عبد الرحمن، ولما تنظم مذبحة جديدة في طليطلة. بدل الطوائف زاد عدد الدول عن عدد الرعية فيها ولم يأت عبد الرحمن.
والصراخ. الصراخ والحزن. الصراخ والحزن والموت والفقر والجوع والمرض والترقب والقهر والزنازين الرطبة وكم الافواه والركل والمهانة والتغريب والتذويب والنهب والسلب وكل المفردات الاخرى في صحاح الصحاح، كلها، كلها، كلها.
منظر مألوف اكثر من التنفس والخبز وصورة الوجه صباحاً في المرآة، لكن عبد الرحمن لم يجد الطريق بعد، ولم يبن قرطبة أخرى. الأعور الأخشم اختار الفرار الى الأطراف فهل يتبع الجميع؟
وفي الليل في جنة العريف يصخب العزيف. يضج المكان بالماضي وتتلاحق التنهدات وتحسب أنك عشت هناك قبل ألف عام ومت قبل ألف عام. تحسب مع اقتراب الغصن أن يد الصبية تمتد إليك، تمسح دموعاً لم تعتقها العين بعد، وتهمس أنها تحبك والماضي والمستقبل وعبد الرحمن، ثم تسرّ لك في لحظة قوة أنه هناك خلف التل ينتظر ويحفر خندقاً أعمق في قرطبة، وتشعر فجاة أنه فعلاً هناك يحدق في الليل مثلك في الليل ويرسم مثلك الطريق الى قرطبة أخرى.
ليس هنا غريب امره
ولا هنا !!!!
ترى اين ذهب عبد الرحمن؟ !!!!
ليت شعري اين ذهب انه ليس هنا لكنه كان هنا متى ترحل عن هذا المكان متى؟؟؟؟
هذا وتقبل مني وافر التحيه دمتم بخير
مقال أعجبني فأحببت أن اطلعكم عليه مع جزيل الشكر لكاتبه