الطريق الى سجن النقب/ بقلم الكاتب : عمر عفانه
التاريخ: 2009-10-31 09:25:48
مركز الأسرى للدراسات
الصحفي عمر عفانه.
--------------------------------------------------
الطريق الى سجن النقب (1)
لم يكن السجن هدفا لنبحث عن طريقنا اليه وانما هو الاحتلال الذي اوجد هذه الباستيلات النازية ليزج بها ابناء شعب اغتصبت اراضيهم ومقدساتهم وانتهكت محرماتهم واريقت دمائهم وبالطبع فان سجون الاحتلال قامت ونشأت من واقع الاحتلال الذي لا يتوانى في اجرائاته القمعية والامنية المشددة بحق الحركة الاسيرة حيث يهدف الى تركيع هذه الارادة الصلبة التي يتسلح بها الاسير الفلسطيني من ذاته لمجرد وقوعه في الاسر وهكذا كانت البداية عندما اعتقلت للمرة الاولى وانا في سن الخامسة عشرة من عمري وبعد ذلك توالت الاعتقالات وتعززت القناعة بان الارداة لا ولن تلين مهما تعددت الاعتقالات وتنوع التعذيب في اقبية التحقيق بمختلف مراكز المخابرات الاحتلال يتواصل ويتمادى في عنجهيته ووحشيته وكبرت معي تجربتي النضالية وتجاربي الاعتقالية فوقفت مع نفسي اواجه مسؤولياتي امام ما ارتكبه الاحتلال بحق شعبي اولا وعائلتي التي انقرضت ثانيا ... وعندما اقول انقرضت لا ابالغ اذا لا اذكر ان افراد اسرتي اجتمعوا مرة واحدة نهائيا فمنهم من اعتقل واخرين استشهدو او شتتوا ومع ذلك قررت ان انتقم انفسي بنفسي وان لا انتظر قدري حائرا بل ساذهب له واواجهه واصنع مصيري بنفسي .. فجاء يوم الوعيد ..
الرابع من نيسان سنة 2002 احتشدت على اطراف المدينة ( نابلس ) مئات الاليات والمعززة بالترسانة العسكرية المتطورة وتقدمو نحو المدينة تبدد سكونها بهدير الدبابات ودوي القذائف وازيز الرصاص وبدأت تزحف بشراسة لتهدم وتدمر تاريخ وحضارة هذا البلد وتتربص بكل من ينتمي الى فلسطين .. وارهقني الانتظار وكيف ستكون المعركة ولم اتردد لحظة حين امتشقت سلاحي وذخيرتي وقررت ان اصنع المعركة بنفسي وفي لحظة شدي الحنين الى قريتي وجبالها وينابيعها فقادني هذا الحنين الى تلك القرية (تل ) وقبل ان اتحطى حدود المدينة وبينما كنت اسير في سيارتي باتجاه القرية راودني احساس باني وقعت في كمين وقبل معاودة التفكير انهالت زخات من الرصاص على السيارة التي لم تخيبني بعد ان تلقيت رصاصة في كتفي حيث لا ابالغ لو قلت ان السيارة ساعدتني على الانسحاب عندما فقدت السيطرة عليها وصلت المستشفى قيل لي انت اول جريح يصلنا تلقيت الاسعاف الاولي ودخلت مرة اخرى البلدة القديمة ومرة اخرى بدأت انتظر بشوق لقاء الاحبة الذين رحلوا شهداء وفي البلدة القديمة الاف الحكايات التي تعجز عن وصفها كل اللغات ولا املك من هذه الحكايات حق الرواية الا روايتي والتي تمثلت بخمسة ايام وكانت دهرا او اكثر استقبلني العديد من رفاق السلاح قرب مسجد الخضر وكان اخي ابراهيم بين تلك الجموع فتقدم نحوي مبتسما وعانقني عناق فيه حرارة الاب والاخ ولمقاتل وقال لي ( مش قادر تصبر حتى يوصلوا ) ورافقني الى المستشفى الميداني قرب مسجد البيك فوجدت هناك طواقم الاسعاف وفي المقدمة طبيبة لم ينصفها التاريخ تلقفتني على الفور واعادت اسعافي مجددا وطمأنتني وهي تمازحني ( يلا بلا دلع ) الدكتورة زهرة الواوي اسم لا ينسى ولن انسى تلك الطبيبة النابلسية والتي لم تكن اقل اهمية من أي مقاتل بل الاكثر اهمية وشجاعة كانت تستقبل الجرحى والحالات الحرجة بمنتهى الشجاعة والعطف والمهنية هذه العوامل الثلاثة تجسدت في تلك الطبيبة بدأت اتعاطف معها وانا اراها تنتشر على اسرة الجرحى في ان واحد كانت اكثر من ذلك بكثير , كنت اراها تبكي ليس من التعب . بل حنوها على الرجال الذين تمزقوا اشلاء ولم يكتب لهم الحياة والشفاء .. حنوها على طوابير الجرحى الذين كانوا يفتقدون كل شيء الا ابتسامتها ...
في باحة المسجد كانت ترقد جثامين الشهداء تنتظر مثواها الاخير في ظل القصف الجوي المكثف..وبين الحين والاخر كنا نحمل الام جراحنا ونقرأ القرآن على ارواح الشهداء ولا زالت نظراتهم تقول انهم احياء
توغلت قوة عسكرية الى المدينة بمنتهى الوحشية بدأت تدمر وتقتل .. حاصرت قوة عسكرية جامع البيك ( المستشفى الميداني ) ولكن الدكتورة زهرة وطاقم المسعفين المتطوعين تصدوا لهم بصدورهم ومنعوهم من اقتحام المستشفى بعد ذلك انتقلت مع بعض الاصدقاء الى منزل في شارع النصر واثناء وصولنا الى البيت المنشود رأينا العجب والعجاب قد لا يصدق قارئي لو قلت باني تعثرت عدة مرات بجثث الشهداء المنتشرة في ازقة البلدة القديمة بينما كنا نتحسس طريقنا على الجدران حيث ان الظلام اشتدت حلكته ووحشته ... في تلك اللحظات شعرت باني ذاهب الى حتفي ولكن لا مفر من مواصلةالتقدم خاصة ان العودة فيها موت محتم لاننا كنا نسابق الخطوات مع صوت الانفجارات ووميضها الذي كان يرشدنا الى موقعنا .. كنت مثقلا بالام اصابتني ونزيف تدفق من دمي لكثرة الحركة .. وصلنا الى مدخل الحوش الذي يؤدي الى البيت المنشود وترددت في الدخول لانني لا اريد الموت وانا محاصر .هذا يعني انني في حالة انتظار الموت ولكن اردت الموت في العراء , شدني صديقي الذي كان برفقتي واقنعني بانه ربما تكتب لنا النجاة لو تدارينا عن القصف تذكرت لحظتها اخوتي ابراهيم ونعيم .. شدني شوق وحنين لم يسبق له مثيل الى نعيم وتمنيته قربي ومعي , حاولت الاتصال للبحث عنه ولكن لا احد يعلم عنه شيئا .. سلمت انه استشهد قرأت له الفاتحة غيابيا .. وبالقفز عن التفاصيل التي اعجز عن تجسيدها عبر كلمات .....
الطائرات المروحية قصفت البيت واختلط الصوت الهادر بالغبار الثائر وتناثرت الاشلاء في زوايا البيت المدمر .. صحوت بعد ثماني ساعات لارى نفسي مكبلا بقيود بجانب دبابة اسرائيلية في محيط مدرسة جمال عبد الناصر بينما كان جسدي ممزقا تسيل منه الدماء نتيجة الشظايا التي اخترقت جسدي من القصف .. ولم امت .. استشهد ابراهيم .. حاولت البكاء فلم استطع .. صرخت وصرخت وبصمت .. وتأملت بعض الصور لابراهيم .. الذي غادر دون وداع .. استذكرت اطفاله الصغار .. حاولت النظر الى نفسي وتجاهلت ما رأيت .. لعنت يومي وتاريخ ميلادي .. مرة اخرى .. واعتقال جديد .. لم يسبق له مثيل ..حضرت مصفحة ونقلتني مع بعض من حالفهم الحظ بالنجاة .. الى معسكر حوارة والذين كانوا يتلهثون انتظارا لفرائسهم .. وما ان فتحت المصفحة بابها الخلفي حيث تكالبت الايادي وهي تتسابق للنيل ممن لا حول لهم ولا قوة انهالو علينا بالضرب المبرح والشتائم البذيئة وعلى هذا الحال بقيت سبعة عشر يوما دون علاج ودون راحة ودون رحمة ضرب .. شبح واذلال تجويع واهانات ...الخ .
حضر ضابط المنطقة وهددني بالقتل عندما اشهر مسدسه وصوبه الى راسي وقال يا اخو ... سأقتلك وارميك في البلدة القديمة مثل الكلب كل ذلك لانني كنت اصرخ طلبا للعلاج من شدةالالم في جميع انحاء جسدي وذات الضابط امر بتحويلي الى التحقيق في عسقلان المسلخ .. طبيب مركز التحقيق رفض استقبالي لسوء حالتي الصحية ولكن ضباط المخابرات اصروا على استضافتي في اقبية التحقيق حيث كان تحقيقا مكثفا طيلة اربع ايام وعندما لم يتغير في موقفي شيئ وساء وضعي الصحي لدرجة العجز عن الحركة والحديث فنقلوني الى مستشفى سوروكا في بئر السبع وبعد اجراء الفحوصات والعلاج الاولي قرر الطبيب انني بحاجة الى راحة تامة وعناية مركزة .. نقلوني الى سجن عوفر قرب رام الله وحولوا ملفي الطبي الى طبيب عسكري هناك وعندما رآني الطبيب ضربني على مواقع الاصابة ليتحسس حجم الالام فرفضت العلاج وبدأت اصرخ عليه حتى حضر بعض الجنود وواصلوا الضرب وشدوا وثاقي واعادوني الى الخيمة وفي اليوم التالي حضر ضابط من الادارة وابلغني بقرار الاعتقال الاداري لمدة ستة شهور بحجة انني خطير على امن المنطقة حيث الحافلة كانت تنتظر .. فاعتليت الحافلة محمولا على اكتاف المعتقلين وانتقلت الى سجن النقب الصحراوي لاقضي عامين من الاعتقال الاداري مشلولا الا من ارادتي التي عالجت بها جروحي وغربتي وعن المعاناة في سجن النقب سيكون للحديث بقية ....
(2)
سجن النقب والرجولة المبكره
تقاذفتني احلامي بينما طالت المسافات الى سجن النقب في زنزانة متحركه) البوسطه)وغفوت لاحلم بالحرية وجمالها وروعتها التقيت باطفالي وودعت اخي الشهيد ..حلم ليس له علاقة بالواقع المؤلم .. صحوت لاجد نفسي مكبلا وتبددت الاحلام امام الحقيقة المرة بانني فارقت اطفالي وما ودعت اخي الشهيد .. كان ذلك بالنسبة لي صدمة استوعبتها في لحظات او اقل من ذلك بكثير لملمت جراحي بصمت وتحضرت لمواجهة الواقع الذي طالما تعايشت معه في السجون والمعتقلات ومراكز التحقيق .. كل ذلك لايهم المهم ماذابعد؟؟ توقفت البوسطه امام البوابة لتنتظر اذن الدخول الى ما وراء القضبان والاسلاك الشائكة وكنت وزملائي نتلهث للوصول الى ذاك الكابوس (النقب) الذي يسيطر في مخيلتنا بخيامه وشمسه ورماله .. انتظرنا طويلا والعر ق يتصبب من اجسادنا حتى سمعنا زمجرة البوابة وهي تعطي اذن الدخول .. وما لبثت تسير بضعة امتار حتى توقفت مرة اخرى وبوابة ثانية ولم يكن الانتظار طويلا .. سارت الحافله الى عمق المعتقل الصحراوي لتتوقف المرة الثالثة على البوابة الاخيره .. في تلك اللحظة شعرت برائحة الخيمة والطعام الذي له نكهته الخاصة وشعرت بقسوة القضبان وهي تعلو فوق هاماتنا ..ولم تكن الاجرائات المتبعة بالامر الجديد بالنسبة لي .. سألني بعض رفاق السفر ممن هم حديثو التجربة الاعتقالية .. هل وصلنا ؟؟ وهم بالطبع كانوا يعلمون جيدا اننا وصلنا لانني حضرتهم الى مثل هذه اللحظة منذ بداية الرحلة .. ولكنها كانت الرغبة في معرفة كل شيء فقلت لهم مبتسما (وصلنا الحديقة) واردت بذلك تلطيف الاجواء والتي كانت بالنسبة لهم مشحونه بعدة تساؤلات عن الواقع الجديد رايت في وجوههم تقبلا الى حد ما لهذه الجملة .. احدهم ثائر رمضان من بيت لحم هو طفل وفي لغة المناضلين والسجون (شبل) تشبث بهذه الجمله وبدا يرددها ويتغنى بها .. ابتسمت له بحرارة ورايت فيه التحدي لكل ما هو آت من معانيات كانت نظراته الى المجهول تقهر السجان الذي جاء حاملا قائمة بالاسماء .. بعد ان تم التاكد من العدد سمح لنا بالدخول الى السجن وقبل ان تتوقف الحافله سمعنا اصوات الندائات من الداخل اصوات كثيره اختلطت بصوت سماعات الادارة فسالني ثائر عن هذه الندائات ومن هم ؟ اجبته بانهم المعتقلين من داخل الاقسام يرحبون بقدومك بينهم واكدت له باني لا امزح بل هذه هي العاده وغدا سترى عندما تكون انت في الداخل .. ابتهج ثائر وبدا يصرخ وكأنه يرد التحيه وصوته كان يعلو في كل مرة .. انزعج السجانون وطلبوا منه ان يصمت الا انه لم يأبه لما قالوه لا بل زادت وتيرة الصوت ليعرب للسجان بأنه لا يهابه ولا يهاب السجن .. كان لموقف ثائر الاثر الكبير في نفوس البقية من الذين لم يكن لهم أي تجربة اعتقالية ..ومن المضحك ان السجان ذهب ليشكو ثائر الى ضابط اعلى منه رتبه .. هنا شعر ثائر بأهمية ان يتحدى الضابط ورفض الانصياع لاي منهم .. فقال الضابط لن تغادروا الحافله حتى يصمت هذا الصبي .. فوجيء الضابط بأن الجميع بدأوا بالصراخ وكأنهم يرددون مع ثائر ندائاته .. نظر الي الضابط فوجدني صامتأ وانظر اليهم بأعجاب فقال لي انت المسؤول عن هذا التحريض وسوف تعاقب على فعلتك .. لم يكن يدرك السجان انني قضيت في السجون ما يؤهلني للردعليه بما يجعله يتراجع عن تهديده لي .. فقلت له انت لا تستطيع ان تقرر العقوبه لانك لا تملك الصلاحيات لذلك .. افتعل الغضب ولم يجد ما يقوله سوى (اسكت قبل ما اكسر راسك) فقلت له انت تهددني وأنا لم اعتدي عليك بكلمه وسوف اشتكي عليك حالما يتم استلامي من قبل الادارة فاقترب مني بحذر بينما لا زلت مقيدأ واكتشف انني في وضع صحي يمنعني من الحركه او الوقوف حتى من الصراخ وهنا ادرك لماذا كنت اجلس بهدوء .. قال لي اسمع احكي للشباب يسكتو علشان ما يصير مشاكل .. وبدا يتحدث وهويريد التراجع عن حدته مع الجميع وكل ما اراده كان انهاء مهمته .. قلت له دعني اتحدث مع الشباب بالاسلوب الذي يتقبلونه .. ففعل وتراجع الى الخلف وبدأ يراقب عن قرب فقلت لهم يا شباب احنا وصلنا السجن وصار لازم ندخل عالاقسام ونخلص من هالكلبشات ونشوف الشباب براحتنا لو سمحتوا شوية هدوء .. دهش الضابط لما لمسه من انضباط والتزام وبدأ بالعمل على انهاء الاجرائات لدخول الاقسام ... فتمسك بي الشبل ثائر ليطلب من الضابط بأن يبقى معي ولمس الضابط اصراره على ذلك وأردف ثائر قائلا انا اساعده واعطيه الدواء وهو يريدني ان ابقى لجانبه وهكذا فرض ثائر نفسه على الضابط بأن استطاع تحديد قسمه مسبقأ حيث اضطر الضابط للنزول من الحافله والحصول على اذن بذلك وعندما عاد قال انا شايفك بتحبو كثير وكان يقصدني .. قال ثائر انه في مقام ابي ..
قال له ساعد ابوك على النزول .. فاحتضنني ثائر بجسده النحيل وكابر على ان يطلب مساعدة احد اخر الا ان احد المعتقلين تقدم ليساعده ودخلنا الاقسام بينما كان جميع السرى في قسم (ِِِA -1) يقفون في الساحه ليستقبلوننا بالترحاب .. والتصق بي ثائر وهو يساعدني على الوقوف .. وكان يهمس في اذني بين حين واخر سائلا (تعبان؟) وبدا امام الجميع لافتأ للنظر برجولته وشموخه لا بل كان في غاية السعاده وهو يعانق الاسرى ويحاول ان يعكس فيهم بأنه ليس اقل منهم رجولة وكبرياء ... احبه الجميع من لما بدا منه في الوهلة الاولى من شجاعة وشموخ
وهنا لا انكر انه كان لثائر الحضور في نفسي عندما قال لي انا اعتبرك في مقام ابي واخلص معي في مشاعره كأبن يستحق مني كل الحب والحنان ... ولم يفارقني حتى في ساعات النوم اراد ان يكون قريبأ مني ويكثر من الاسئلة اثناء جلوسه بقربي ... يريد ان يشعرني من خلالها بأنيي المسؤول المباشر عنه وعن كل ما يتعلق به .. تماشيت مع رغبته كما شاء لها ان تكون .. وكان يتسائل دائمأ ماذا لو افترقنا ؟؟؟ وارى في عينيه الحيرة والقلق تحسبأ لهذه اللحظة ..
(3)
سجن النقب ... وذكريات الكفاح...
لم يكن اليوم الاول الا البداية التي لا نهاية لها ... فتعددت الاسباب والسجن واحد,والحرية لاتقاس بالمساحة الممنوحة للانسان ,انما هي بالتحدي والعنفوان , وبدت الايام تطوي من العمر ايام اخرى , ولكنها خلف القضبان ... جلست بين القضبان والخيام ,خلوة اردتها لنفسي بعيدأ عن الوان المعاناة والمشاهد الروتينية التي اعتدت عليها سنوات طويله من الاسر والاعتقال لاحدث نفسي واحاكي ذاكرتي ,لاستحضر ذاتي الثائره وانظر الى جسدي المشلول وانا اجلس كرسي متحرك خلف الأسلاك وبين القضبان احمل بيدي كسرة خبز مبتلة واقذف بها عبرالاسلاك ومن خلال سكون الصحراء وصمتها انطلقت عصافير الدويري ترقص ترفرف وتزقزق بين الأسلاك , حلقت مفزوعة وحطت مهلوعه تلتقط الخبز ومن بين ضلوع الحزن خرج الصمت بصمت .. صمت الكلمات في زمن العجز , أشاح التاريخ بوجهه لدموع الرجال , رجال لا تستطيع تلبية استغاثة ونداء , صرخت النسوة وانين وآهات الأبناء , آه منك يا زمن التعذيب بالقرعة, يا دك التاريخ والقلعة في يوم ميلاد صبيه على الحواجز , وتفتيش امراه بالشارع ماذا يعني خلع الأشجار وهدم جدار الدار وضعوا بين الجار والجار ألف حاجز وجدار .... صادروا الحلم ووضعوا حاجز بين الزوجة والزوج .. حاجز موت , حاجز رعب , حاجز حقد وحاجز جوع .
حلمت بإبراهيم يوم الجمعة كنا نرتشف سويا القهوة وفوق النرجيلة ولعه , أمام الدار في كل جمعه وتحت الدالية ارتشفنا القهوة .. كانت أمي (أم فتحي ) تعجن أمام الدار وتخبز سقط البلبل من عشه المسكين يحاول عبثا الطيران, سقط تحت الشجرة قريبا منها حملته تاركه خبزها وصاحت بأعلى صوت اغيثني يا عمر وساعدني في إعادة الفرخ لامه كانت أمه تحلق وتنتقل من جذع لآخر, حملت صغيرها براحتي .. طارت أمه وحاولت إعاقتي , أغارت لتخطفه ... وعادت لعشها باكيه ثم عادت صارخة مدوية حطت فوق راحتي وعلى كتفي وبدأت تنهش براسي , حملت الفرخ ووضعته في عشه , طارت رقصت غنت , وبين الأغصان تمردت احتضنت فرخها بجناحيها وغنت أحلى الألحان .
نهض إبراهيم عن الاريكه وضمني لصدره , شعرت ان جسدي ينصهر في ذاته لنشكل جسدا واحد , كانت فيروز تردد عبر شريط بمسجل " اعطني النايا وغني , فالغنى سر الوجود وانين الناي يبقى بعد ان يفنى الوجود " ... حتى وصلت الى وعناقيد العنب تدلت كثريات الذهب .. تنهدت انا وإبراهيم تحت الدالية والعنب تدلى , اعلم يا أخي إنها أعظم داليه زرعت لتعيش وتبقى , ظنوا أنها ماتت في عام 1969 عندما نسف المحتلون بيتنا جعلوا من أغصانها أشلاء داسوها بأقدامهم ..دفنوها بين انقاد البيت وفي اليوم التالي كانت أمي عنها تبحث بين الانقاد ترفع حجرا وتنظف تراب وتصرخ ستعيشي ستعيشي وأحضرت إبريق ماء رشته حول غصن صغير كان من تحت الانقاذ بارز تحدى الموت بصمت .
أتعلم يا أخي بأنهم أعادوا الكره ودمروها المرة تلو المرة في عام 1982 داسوها كل مره . صاحت أمي أنت باقية وجذورك في أعماق الارض ضاربه هذه داليتنا زرعها ابوفتحي ورواها بدمه , القي بظلالك لنأكل ويأكل الجيران من ثمارك .
تزوجت عربيه ابنة خالي بين جدران البيت والاسره حملت نفسها حسره .
وضعت مولودتنا الأولى في ظل حصار القرية والدار , كانت انتفاضتنا الأولى وعانت عربيه من تفتيش وتخريب في الدار .
تطاردت وأنجبت بناتها الاربعه . غابت سنين طويلة بين جبال وأشجار حتى اعتقلت في 22-9-1992 , تناوب المحققون بالتنكيل بي . وحكمت خلالها اربع مؤبدات وثمانين عاما بالسجن الفعلي , فهل في التاريخ عبره كيف يدخل الإنسان قبره قبل انتهاء عمره ؟
قالوا بان هناك قبور الأرقام , يضعون بها الموتى بعيدا عن الدار , سألت صديقا لي كم في العمر بقيه , وهل ندفن في مقبرة تل بين الاحبه والظل .
للتاريخ حكمه وألف عبره , أفرج عني بعد اربع سنوات ضمن اتفاقية طابا التي أبرمت بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في 11 -1 1996 , ذهبت للبيت كانت أم فتحي أمام الدار وأم كفاح على انتظار , تنتظر تحت الدالية متحديه القدرللمره الثالثة , طارت أمي فرحا رغم الألم والجراح .. هي أخت للشهيد عبد اللطيف ابوهنيه الذي استشهد عام 1974ولشقيقين مبعدين في عام 1969.. ودعت شهيدا تلو شهيد وزارت ألف سجن ومعتقل وضمدت ألف جرح وجرح وأمام الدار توقف قلبها عن الخفقان , سقطت تحت الدالية بفناء الدار والماء ينصب من يدها فوق داليتها الحنون . وداعا لحنانك وداعا لحبك ونبلك يا اطهر الأمهات .
تتصحر الارض لقلة الماء ويهاجر الزهر وتموت السنابل وتهاجر الطيور والناس فهل يموت الإحساس . في الحرب لا مكانة للحب و العطف ,وبالسلام ود وعطف ... رصاص المحتلين لا يميزبين صغير وكبير بين أمرأه ورضيع ... الحقد عنوان ... أمطر المحتلون وعملاؤهم بيتنا بالرصاص , زرعوا الشوك , مزقوا جسد الزوجة ,اقتلعوا الحب من داري ويتموا أطفالي ,لقد دمروا أحلامي وأشواقي .عانقني إبراهيم شدني لداخله ليمتص حزني ويغمرني بحبه فهو صاحب القلب الكبير المعطاء , لقد اعتقلوه في عام 1982 وبين زنازين التحقيق وتعذيب المحققين حكموه ثمان سنوات واعتقل بعدها عدة مرات كان يزرع الدنيا أملا وحبا .
عانقت أمي مواساة وودا بعد اعتقال أخي عبد الرحمن في عام 1985وحكم عليه بالسجن خمس سنوات واعتقل كذلك عدة مرات , اعتقلوا بعدها أخي عبد الكريم بتهمه الانتماء لآل عفانه أما أخي نعيم فقد اعتقلوه يوم زفافه , حملوه من (الكوشة) كما قال المصريون ,واتهموه بالانتماء لعائلة عفانه وأنا أقول كما قال المصريون لو كانوا سألونا قبل ما يولدونا ...
استيقظت مدينة نابلس يوم 7-4-2002 على هدير الطائرات ودوي القذائف وازير الرصاص صرير جنازير دبابات وآليات المحتلين ,كنت وإبراهيم أخي في نابلس ... وعاشت مدينة نابلس فزعا .. خوفا.. ودمار .أصبت بطلقة بالكتف هربنا حملني إبراهيم الى داخل بيت ضمد جراحي عانقني حبس أنفاسي عشنا يومين بين قذائفهم .. سرق الموت إبراهيم مني .. خطفته قذيفة ومزقته أشلاء,استيقظت بين جموع الجيش موت وحياة , ضمدوا جراحي ,قيدوني وعلى معتقل عوفر جروني ,كان الاخوه حولي يحتضنوني وبعد صراع مرير حصلت على كرسي متحرك ها انا يا أخوتي عنوان عروبتي أعيش أحزاني والآمي وآثار جراحي بين شباك وسجان في معسكر أنصار 3..
سجلوا هذا التاريخ على صفحات وأجندة أيامكم ففي يوم
11-11-2002 وأنا في معتقلي أنصار كان زفاف ابنتي كفاح.
نهضت باكرا على غير عادتي وتوجهت الى الأسلاك في زاويتي وأشعلت سيجارتي ,نفخت دخانها علني أصنع منه ثوب وطرحة زفاف ,سحبت سيجارتي ثانيه وجعلت دخانها خيوطا انسج بها بدلة زفاف مرصعه بالياقوت والياسمين .
أمنحوني نقطة زيت أضعها بسراجي .. سراج نور لبناتي ,أعيش في سجني بين سجاني أعاني جرحي والامي ... وامنحو ابنتي حق الحياة بما تبقى من الحياه ... هي لا ذنب لها سوى انها ولدت من صلبي ... ولم يكن اسمها الا تجسيدا لمعترك حياة عاشتها العائلة التي تنتسب اليها ... كفاح ... هي حياة اسرتنا التي تورثت المعاناه والقهر والظلم والاغتراب ... معاناة الاحتلال وقهر الموت وظلم ذوي القربى واغتراب السجن ... هذه هي مسيرة الكفاح لاسرة لم يلتأم شملها مرة واحدة ... وعيدها كان ليس كباقي الاعياد ... وحتى يوم زفافها لم تجد الام التي فارقت الحياة ولا الاب الذي قيدته اغلال الحاقدين ولا حنو العم الذي مزقته قذائف الغزو الصهيوني ... فاين معالم الفرحة لعروس حلمت بمن يأخذها من يدها الى عش الزوجيه ... فلم تجد سوى بقايا اسرة مشرذمة باكية على غابوا في عمق الغيب ... وكيف سيكون يومك يا ابنتي وانت ترفلين في ثوبك الذي رسمته لك في خيالي على ثنايا خيمتي ... هل يعقل ان تكون ثمرة حبي وحيده الا من دموع اخواتها وحسرتها على فراقهن ؟؟؟... صور كثيره تكالبت في خيالي وتكررت في ذهني وتجسدت في ذاتي وترسخت في عقلي ... شاهتها جميعها وقلبتها واحدة تلو الاخرى وتاملت كل منها وحاكيتها فلم اجد فيها الا اليتم والشقاء والعذاب والحسرة ... حتى الابتسامة ارتسمت على شفاه بللتها الدموع ... اه يا زمن المنسيين واه يا زمن المقهورين واه يا زمن ياتي لازف ابنتي وانا حزين ... سيجارتي احترقت بين اناملي وجحيم غضبي ظل دفينا في اعماقي ... نفثت دخاني مرة ومرة وثلاث مرات ومع كل مرة اطلق العنان لخيالي ان ياخذني الى البعيد البعيد ... صحوت لاجد نفسي لا زلت راكدأ على كرسي المتحرك واسلاك شائكة تحيطني وابراج الحراسة تحاصرني ومساحتي ضيقه ضيقه ... لعنت زمني وتاريخي ولعنت يوم ميلادي وصرخت ... ولكن بصمت ... مبارك عليك يا حبيبتي ... في امان الله يا بنيتي ... ودفنت ذكرياتي وحسرتي ... لاذرف دمعه اروي بها عطش غربتي ....
وداعا وداعا وداعا يا حبيبتي