خواطر من ذاكرة الأسر (1) محمد السواحري
التاريخ: 2008-05-14 12:26:54
مركز الأسرى للدراسات
أحلام الطفولة
--------------------------------
أحلام الطفولة
(1)
إلى شفيق .......حتى يبزغ الفجر
هي المحاولة خجولة......متواضعة.....ومتأخرة....ربما! لكن أن تأتي متأخرة خير ألف مرة من أن لا تأتي، فلربما تكفر بعضاً من تقصيرنا وشيئاً من خطايا نفوسنا التي سمحت بأن تغفل عنكم ولو طرفة عين. ولربما أيضاً تتيح لنفوسنا "الأسيرة" متنفساً نطل منه على عالمكم "الحر" والمتقد بسحر حضوركم ووهج شموخكم. كيف لا، وها هي "نفسي اللوامة" تنتفض فزعة وهي التي عاشت التجربة واكتوت بنارها وتجرعت مرارتها، وغلّظت الأيمان وأقسمت بالغالي والنفيس ألا تنسى وألا تغفل، ما إن فتحت لها الدنيا ذراعيها حتى طوتها في ظُلمة بحارها اللجيّة وشغلت عليها الليل والنهار، وغرقت في بحر المتدافعين على بعض فُتاتها ،فنسيت وغفلت وسقطت من يدها الراية!.
لكن مهلاً! ألم تقل العرب أن لكل جواد كبوة، ثم أليس حسبنا أن إخواننا وأحبتنا في "قلاعهم" يلتمسون لنا العذر، ويتوسمون فينا الخير، ويحثوننا على النهوض ويصرخون في وجوهنا أن :" ويحكم لا تترجلوا أبدا لم يفت الأوان بعد".
ثم ها أنا ذا أقع في ذات الحيرة، حيرة البداية الصعبة، فمن أين أبدأ وبمن أبدأ!! إذ كلهم إخوة أحبة أعزاء، فقد ربطتنا بهم رابطة لا تنفصم عُراها وتقاسمنا وإياهم أجمل اللحظات وأشدها قسوة. لكنّ ترددي لم يطل هذه المرة، فحزمت أمري وأمسَكت يدي المرتعشة عصا الراية ورفعتها من جديد لتعانق عالياً عنان السماء، حيث هو مكانك في قلوب من عرفوك وأحبوك، وحيث يليق بالرجال الرجال أن يكونوا، ووجهت وجهيَ حيث رفرفت الراية فإذا باسمك وقد خُط بحروف من نور، فقرأته ثم قرأته وهتفت به عاليا ليملئ الفضاء: شفيق ردايدة ( أبو علي) "سلام لك حتى يطلع الفجر".
أيام طوال مرت مُذ رأيتك فيها آخر مرة، وكأنها العمر بأكمله، كنت فيها أبا علي الذي عرفته قبل ثلاثة عشر عاماً خلت. أنت كما أنت لم تتبدل ولم تتغير. نعم فَعَلت فيك عتمة السجن ورطوبة جدرانه فِعلتها، نعم عَلا الشيب رأسك وامتد إلى لحيتك الطاهرة، ولربما تثاقلت الخطى قليلاً وارتخت بعضُ العضلات المفتولة "وتدلى الكرش قليلاً أو أكثر !". لكن روحك هي ذات الروح المتألقة التي عرفتُها، وهامتك هي ذاتُ الهامة الشامخة التي رَسَمت ملامح رحلتك، وعزيمتك هي ذات العزيمة الصلبة التي لم تنكسر رغم طول المحنة وقسوتها وعذاباتها. الآن فقط أفهم وأدرك جيدا، أخي شفيق، لماذا هذا الإصرار على تغييبك وعزلك هناك في "مدافن الأحياء" حيث لا شمس ولا هواء!!.، إذ صدق الشاعر حين قال:
تبقى الأسود مخيفة في أسرها حتى وإن نبحت عليها الكلاب
أبا علي ......ربما توهم الأعداء أنهم إن حاصروا جسدك الطاهر داخل جدران زنازينهم فإنهم بذلك يحطمون جدران عزيمتك وإيمانك ويخترقون جدار قلبك المشع بالإيمان لكسر إرادتك والنيل من ثباتك وصمودك، لكنك أنت كما كنت على الدوام تثبت لهم في كل مرة بأن رهانهم خاسر وبأنك صاحب قلب لا يعرف الانكفاء، وبأن عزيمتك شجرة تستعصي على القلع أو الاجتثاث، وبأنك وكل إخوانك الشرفاء القابضين على جمر الوحدة والعزل، نبتة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكلها كل حين وفي كل مكان حتى وإن كانت غيابة جُب أو عتمة سجن موحشة.
نعم أنت ذا شفيق الذي عرفتُه، وحين يندفع قلمي بكل حرارة وتلقائية لينبشَ في ثنايا النفس وحين أقلّب صفحات الذاكرة وأُرجِعُ البصر كرّات في سالف الأيام، لا أجدك إلا سابحاً ضد التيار: تيار المرجفين المنبطحين، والمتلونين. أبحث عن كفك فأجدها تناطح مخرزهم، بل قل مخارزهم، فلا زِلتِ على عهدك مع الله ومع التاريخ، معانداً وممانعاً، تقول الحق ولا تتلون، بل لا تحب من الألوان إلا الأبيض والأسود فلا منطقة رمادية في عالمك، فإما حق تام أو باطل زاهق.
أبا علي ستُ سنوات مضت منذ اعتقالك الأخير، وسبقها سنوات طوال عجاف طويت من عمرك خلف قضبان السجن، حتى قاربت في مجموعها العشرين عاماً. أبا علي والله ما ذل ذو حق ولو تألبت عليه الدنيا كلها، فكيف بك أنت وأنت تتلو كلام الله "ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم". ما زلنا ننتظرك وما زالت قريتك ( العبيدية) بشوارعها وحاراتها وأزقتها تنتظر فارسها ليطل عليها بوجهه المشرق وابتسامته العريضة، لينير سماءها. ننتظرك بيقين ثابت وبعزيمة نستمدها من صمودكم وصبركم، ونرفعُ أكف الضراعة إلى الله أن يخفف عنك وعن إخوانك عتمة السجن ووحدته، وأن يجعل لك ولكل السجناء فرجاً عاجلاً قريباً، وبأن تكتحل عيون أهليكم وذويكم ومحبيكم برؤية وجوهكم النيرة وانتم تتنسمون هواء الحرية وتتنشقون عبيرها.
خواطر من ذاكرة الأسر (2)
نصر شقيرات.......فارسنا الذي ما ترجّل!
تتكرر المحاولة ويتكرر معها الغوص في ثنايا الذاكرة. وبرغم ذاكرتنا المكتظة بآلاف التفاصيل، وبرغم كل ذاك الزحام، وكل تلك الوجوه، تبرز من بين ثنايا الذاكرة وجوه الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وتتسلل بهدوء مدهش إلى صفحة واقعنا لتفرض نفسها وتقول ها أنا من جديد.
يخرج طيفك يا نصر من بين ثنايا الذاكرة ولا يفاجئني، لأني حفظته جيداً في ذلك المكان من قلبي وعقلي. تمثُل أمامي فجأة بكل أحاسيسك وتفاصيلك، وعيناك ترافقان صمتي العقيم الذي أحاول جاهداً أن أخرج عنه. تعيش أنت وثلة من الفرسان، سواء منكم من بقي على صهوات جيادهم أو من ترجلوا، في أعماقنا وتحفرون أسمائكم فيها بطريقة يستحيل معها التناسي أو النسيان.
نعم أعترف أخي نصر، أنه ربما كانت لقاءاتي بك عابرة في ظروف عابرة، في المدرسة، في الشارع، أو حتى في السجن، وربما كانت تفاصيلها صغيرة بأحداثها ومكانها، لكنها كانت أكبر من أن تسعها الكلمات أو تعبّر عنها الأحاسيس والمشاعر. ذكريات لأشياء وأحداث ومواقف، ببساطتها بصعوبتها بحلوها بمرها، أذكر بعضها فأضحك وأذكر بعضها الأخر فأتألم، لكنها مع ذلك تجعلك، وكل الأسرى الفلسطينيين، أقرب إلينا من حبل الوريد.
أُغمِضُ العين على وقع اللحظات الأخيرة في اللقاء الأخير في سجن نفحة الصحراوي، قبل ثمان سنوات خلت، فأخالك تهمس في أذني مودعاً وموصياً:" يا رايح صوب بلادي بلغلي أهلي السلام"، أذكر جيداً وصاياك وسلاماتك الحارة المفعمة بالشوق والحنين، للبشر للأزقة والحارات والشجر. أذكر حينها ابتسامتك العريضة التي ملئت مُحيا وجهك المشع بنور الإيمان، فأستذكر قول الشاعر:
وظلام سجنك في فؤادك غُرة الصبح المبين.
إن طأطأ الباغي جبينٌ، فأنت وضاءُ الجبين.
فلأنت حصن للعقيدة، لا يذل ولا يلين.
وَيْحَ جلاديك وويح سياطهم يا نصر!! ألم يسمعوك تردد "أن الشجرة لن تفنى حتى لو سقطت عنها بعض الأغصان"، ألم يعلموا، يا هذا الفارس، أن سنوات حُكمك الجائر (الثلاث وثمانون عاماً) لم تفت في عضدك ولم تنل من رباطة جأشك وجرأة جسدك النحيل، الذي هو أصلب من حديد قيودهم وعتادهم. ألم يفهم هؤلاء أن السجون التي حملتك وهن على وهن، هي ذاتها التي علمتك كراهية الوهن، حتى جعلت شعارك الدائم:
قالوا حُبستَ فقلت ليس بضائري**** *حبسي وأي مهند لا يغمد
فالسجن إن لم تغشه لدنية شنعاء ****** نعم المنزل المتودد
فالشمس لولا أنها محجوبة ****** عن ناظريك لما أضاء الفرقد
والبدر يدركه السرار فتنجلي ****** أيامه وكأنه متجدد.
إذن هو الابتلاء، أخي نصر، الذي تُمتحن فيه الأمة، وتتميز فيه الصفوف! إنه طريق طويل فيه من الشدّة والألواء والجراحات الشيء الكثير، ولا يقوى على تحمل آلامه وعنته إلا المخلصون من أولياء الله، ونحسبك منهم بإذن الله.
ولكن كن مطمئناً أيها الفارس، فاليوم وبعد مضي ستة عشر عاماً على غيابك، ما زالت قريتك "الشيخ سعد"، على حالها وعلى عهدها معك و"ما بدلت تبديلا" ، تحن إلى فارسها وتناجيه وتشتاق إليه وتغمض العين على جُرح فراقه وألم بعده وغيابه، وهي تردد صبح مساء "إني لأجد ريح نصر"، وكلها ثقة بأنك عائد إليها لا محالة " ويرونه بعيدا ونراه قريبا".
خواطر من ذاكرة الأسر (3)
إلى الصديق والشريك والعدو!!
ربما تبدو هذه الكلمات للقارئ الكريم، وللوهلة الأولى، غريبة ومتناقضة وهو أمر أعذره فيه طالما لم يقرأ سياقها الذي وردت فيه. إذ انني على قناعة بأن دهشة قارئي ستنجلي مع إطلاله على المشهد كاملاً، بزمانه ومكانه وشخوصه. فقد قُدّر لي أن أُمثلَ الأسرى الفلسطينيين في سجن النقب الصحراوي أمام إدارة السجن أثناء وجودي فيه. ونتيجة لهذا الدور الذي أنيط بي وبحكم اتقاني للغة العبرية ومعرفتي بخبايا المجتمع الإسرائيلي المستندة إلى دراستي وتخصصي، فقد أتيح لي أن أخوض سلسلة من اللقاءات والحوارات، التي كانت تتجاوز في كثير من الأحيان الجانب (الوظيفي) إلى الجوانب السياسية والفكرية منها، وهو أمرٌ لم يعتد إسرائيليون كُثر على سماعه بحكم الصور النمطية السائدة لديهم عن الإنسان الفلسطيني وحدود ثقافته وتحضّره.
لنعد الآن إلى عنوان هذه المقالة، إذ مع اقتراب موعد الإفراج عني جلست مع المدير لأنقل المهام للشخص الذي سيخلفني في تمثيل الأسرى، وقبل خروجنا من الجلسة قدّم لي مدير السجن كتاباً عن الإسلام واليهودية وقد خط على غلافه الداخلي بقلمه وبخط يده الكلمات التالية:"إلى الصديق والشريك والعدو". وقبل أن أتمكن من إبداء ملاحظاتي على ما فعل، بادرني قائلا :" أنت صديق في المستوى الشخصي وشريك في المستوى المهني وعدو في المستوى القومي". وقد مثلت هذه الكلمات بالنسبة لي الإطار الذي حكم علاقة السجين بسجانه، وهي، بحسب اعتقادي، تحكم اليوم أيضاً، وفي شقها الأخير تحديداً، طبيعة العلاقة القائمة ما بين الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية وما بين سجانيهم الإسرائيليين. إذ لربما تتطور بعض العلاقات الشخصية الهامشية هنا وهناك، ولربما أيضاً ينشا نوع من التفاهم المهني (الوظيفي) الذي تفرضه ظروف السجن وطبيعة الأدوار وإمكانات الأشخاص، بل وأكثر من ذلك ربما يوزع السجانون ابتسامات هنا وهناك ويطلقون شعارات من نوع " نحن لم نسجنكم إنهم رجال الشاباك" أو "نحن لسنا هنا لعقابكم بل لتسهيل الحياة عليكم"!!!. لكن ومع أول حالة احتقان يعود الأمر، وكما تقول العرب، إلى نصابه ويعود الأسد منيعَ غابه، فتزول الابتسامات وتسقط الشعارات البراقة وتسقط معها كل العلاقات الطارئة، ويعود الأسير الفلسطيني إلى حيث هو " ثَغرُهُ" مقاتلاً من أجل كرامته وحريته واستقلاله، ويعود السجان الإسرائيلي إلى حيث هو مربعه ومكانه الطبيعي ممثلاً للاحتلال الذي، وكما صادر الأرض واستوطنها يصادر الحرية والكرامة ويقف أمام أية محاولة من طرف الأسرى الفلسطينيين للمطالبة بحقوقهم التي كفلتها الأعراف والقوانين والمواثيق الدولية والإنسانية. فلا انفصام ولا فِكاك ما بين مؤسسات الاحتلال المختلفة، وإن تلبست بلبوس مختلف أو لعبت أدوارا مختلفة. فمصلحة السجون الإسرائيلية هي المسؤولة، وكجزء من مؤسسات الاحتلال القائمة، مسؤولية مباشرة عن الإجحاف الواقع بحق الأسرى الفلسطينيين والعرب في سجون الاحتلال، وعن الانتهاكات الدائمة لحقوقهم وكراماتهم، والهادفة أولاً وأخيراً إلى كسر إرادة هؤلاء الأسرى وثني عزيمتهم وتفريغهم من محتواهم النضالي.
ليس هذا ما يعنيني هنا بالتحديد، فقد باتت هذه حقائق مسلمٌ بها في أوساط الأسرى الفلسطينيين وكل المهتمين والمتابعين لشأنهم، لكني معني بشكل خاص بمجمل موقف الأسرى وطبيعة تعاطيهم مع هذه المعاملة الممنهجة من قبل مصلحة السجون.
التجربة الطويلة الممتدة في معاملة السجان الإسرائيلي أثبتت أن هناك وعياً بطبيعة عقليته وسلوكه وهي، أي الحركة الأسيرة الفلسطينية، تطور أدوات ووسائل تكفل استمرار صمودها ومجابهتها لهذا التحدي المفروض عليها. لكن هذا الوعي، من وجهة نظري وبحكم التجربة، ما يزال بحاجة إلى مزيد من الدراسة والتمحيص وإعادة المراجعة!. ففي الوقت الذي تقف فيه إدارة السجون في مواجهة الأسرى الفلسطينيين كتلة واحدة متماسكة متسلحة بالقوانين والأنظمة التي تكفل تحقيق غاياتها وأهدافها السالفة الذكر، ما زالت حركتنا الفلسطينية الأسيرة ، وبصراحة متناهية، بحاجة إلى بناء وتعزيز ثقافة "المسؤلية الجماعية" أو ثقافة "المصلحة المشتركة" عل حساب المصلحة الحزبية الضيقة أو المصلحة الشخصية المقيتة. ومع إدراكنا لطبيعة تركيبة الحركة الأسيرة الفلسطينية وحقيقة انتمائها إلى حركات واطر سياسية مختلفة الرؤى والمواقف، ومع تفهمنا للخلفيات الاجتماعية المتباينة للأسرى الفلسطينيين، إلا أن هذا لا يمنع إطلاقا أن تكون رؤية أسرانا مدروسة ومنسجمة ومتوافقة، بعيدة عن الانفعال والإرتجال الذي قد يُفقِدُ قضيتهم الكثير من النقاط ويقدم للطرف الآخر الذرائع لينقض على نضالاتهم وانجازاتهم المُعمدة بالتضحيات وبمعارك الأمعاء الخاوية. وأنا واثق بأن ذاكرة أسرانا تعج بعشرات الأمثلة حول مواقف "مزاجية" من هذا الأسير أو ذاك، والتي كلفت حركتنا الأسيرة وانجازاتها ورصيدها النضالي الشئ الكثير، بل وقفزت بها سنوات ضوئية إلى الوراء، وهو ما اعتادت العرب أن تعبر عنه في أمثالها قائلةً "على أهلها جنت براقش
وحتى لا نقع أو تقع حركتنا الأسيرة فريسة بعض الأهواء الحزبية أو الشخصية، مطلوب منا جميعاً أن نُسقط من قاموسنا مفردات من نوع "أنا" و"لي" و"يخصني" و" موقفي" وبأن نستبدلها بكل ما من شأنه أن يُمتن صفوفنا ويضمن لُحمتنا وتماسكنا. واذكركم جميعاً بقول المهلب بن أبي صفرة :
كونوا جميعاً يا بني إذا اعترى............................ خطبٌ ولا تتفرقوا آحاداً
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً........................... وإذا افترقن تكسرت آحادا