كلما تقدم بها العمر ازدادت شوقا إلى قريتها؛ فحن الجذع إلى أصله وتمنت لو أنها كحلت عينيها بكروم العنب والتين التي تركتها قبل 62 عاما. الحاجة أمينة أبوسلمية (78 عاما) من قرية الجورة جنوب فلسطين المحتلة لا تمل الحديث عن طفولتها التي بددتها نكبة فلسطين عام 1948م حينما احتلت العصابات الصهيونية فلسطين وأعلنت قيام الدولة العبرية والتي اعترفت بها الأمم المتحدة ومعظم دول العالم. في ثوبها الفلاحي المطرز علقت ألف حكاية عن أيام خلت وليالي هانئة تخرجها الآن من جعبتها.. كلما تجمع حولها أحفادها تذكرت نكبة فلسطين.
تبادر الحاجة أمينة بالقول لـ "قدس برس": "62 سنة مرت علي وأنا ما نسيت بلدي ولن أنساها، وأقول يا ريت أدفن في بلدي.. بلدي غالية على قلبي.. حجر رمل أحسن من حجر مال". وبلهجتها الجورانية تتابع الحديث عن طفولتها: "كنت أقعد تحت عنبة وتحت مشمشة. لم نضع الخضروات يوما في الميزان. وأنا بنت 16 سنة ما شفت من يشتري بالأوقية، وكان الناس فيما بينهم يشدوا خاطر واحترام فوق اللزوم". وتركز نظراتها فيمن حولها كأنها تتساءل عن وطنها الذي ضاع قبل 62 عاما فحرمت رائحته ورؤيته. وتستعرض المسنة الفلسطينية ذكرياتها مشيرة إلى أنها هاجرت في سن 16 عاما وقد زارت منذ كانت في الثامنة كلا من مدينة "يافا"، وقرى "بيت عفا" و"كرتيا" و"عرق سويدان"، وهي قرى في فلسطين المحتلة تقع في محيط مدينة عسقلان.
ولا تنسى حين كانت بنت ست سنوات وسألت أمها عن والدها، فقالت لها إنه ما زال في البستان، فتعود 70 عاما للوراء: "أكلت من التوتة ونمت عليها فجاء أبي وأخذني وقد أظلمت الدنيا. بلدنا وردة"، وتصف قريتها وهي تمثل بيديها شكل وردة: "بلدنا وردة غربها بحر وقبلها كروم عنب وشرقها أرض المفتلح بين المجدل وجولس على طريق يافا. نزرع قمحا وذرة وشعيرا وبصلا وفاصوليا". واستطردت: "هذه الأيام موسم سمك السردين نصدره ليافا".
وكانت قرية الجورة تشهد في مثل هذه الأيام من كل عام احتفالات موسمية يشارك فيها السكان من مختلف أنحاء فلسطين. عن موسم النبي أيوب تقول: "في 27-4 من كل عام مهرجان على شاطئ الجورة، فيه خيل وألعاب طوال اليوم. كنا نلعب ويركب الناس في المراكب ويشترون البضائع والحلويات. يا مين يأخذ عيني واقعد تحت جميزة في وادي النمل أو تحت شجرة توت في الجورة!". وتواصل حديثها عن زراعة العنب حيث كان لوالدها 26 دونما مزروعة بالعنب وبعضها بالمشمش، مضيفة: "أهل القرية كانوا بعد الخامس من آب كل عام يرحلون لاصطياد الفر على نهر سكرير لمدة شهر ونصف ويصطادون السمك، ثم يعودون للجورة محملين بالزيت والزبيب والعنب".
نهاية الحلم الجميل
وفي يوم الخامس عشر من أيار من عام 1948 انتهت أحلام أمينة وتبدلت حياتها كما تبدلت حياة شعب بأكمله؛ فهربت مع أهلها من عصابات الموت الإسرائيلية. وقالت: "إن المناوشات بدأت في يافا وحيفا إضافة إلى هجوم اليهود على قرية بيت دجن قبل أن تشتعل كل فلسطين بنيران الاحتلال". وتتمنى الحاجة أمينة لو مات الناس كلهم ولم يهاجر منهم أحد، متحدثة عن بشاعة قصف الطائرات التي قتلت معظم أقاربها. ترفع حاجبيها الأبيضين متحدثة عن ذلك القصف الذي قتل أسرة أحد أقاربها ولم يترك منهم سوى طفل لم يتجاوز العامين، فيما كان القصف يتركز من فوق البحر تجاه المجدل. وتوضح حالة المهاجرين بالقول: "خرجنا حافي الأقدام، وقعدنا ثلاثة أيام في البساتين. كنت يومها صبية. مشينا حتى وصلنا غزة ونمنا على الرمال، فلم نجد غطاء ونحن نقول: هذا الشهر سنرجع. ها نحن نظل 62 عاما ولم نرجع". وتزخر ذاكرتها بأحداث عام 1956 حين رأت بعينيها جثث الشهداء في بساتين الجوافة قرب رفح وقد ألقتها الشاحنات. سمعت يومها أنينا لشاب مصاب فدحرجت له إبريق الماء الفخار ثم داوته حتى تعافى. وتضيف: "في عام 1967 آويت ثمانية جرحى من الجيش المصري، لم يعرف عنهم حتى زوجي وأبعدتهم عن عيون اليهود.. كيف أنسى الشهداء". الحاجة أمينة هذه هي والدة الشهيد جواد أبوسلمية الطالب الغزي الذي استشهد عام 1986 في حرم جامعة بير زيت في الضفة الغربية قبل عام من اندلاع الانتفاضة الأولى، والذي قالت: "إنها كانت تسمع له صوتا كطنين النحل وهو يقرأ القرآن في المنزل حين يعود من الجامعة". وتتابع: "البلد أغلى.. بعد الدين بلدي.. أعز من الولد! من سيردها؟ لا أنسى الشهيد الرنتيسي (الدكتور عبد العزيز الرنتيسي أحد قادة "حماس" الذي اغتيل في 16 نيسان من عام 2004 في غارة إسرائيلية). لم يفارقنا 40 يوما بعد استشهاد ابني هو والشيخ أحمد نمر (أحد القادة التاريخيين لحركة "حماس" في خانيونس).
وهاجرت أمينة وحيدة مع أمها وأبيها وهي التي ودعت سبعة إخوة في قريتها قبل الهجرة وخمس أخوات لم يبق منهن غيرها. و"وادي النمل" هذا الموجود قرب قرية الجورة محل اشتياقها دوما كلما مرت ذكرى النكبة. واليوم بعد 62 عاما على الهجرة ما زالت تروي لأولادها وأحفادها قصص القرية وحكايا الكروم والعودة من الحصاد.
وصية الأحفاد
وتشدد على أنها حريصة على أن تحكي كل يوم لأحفادها فتقول لهم: "إياكم والبلد ابكوا عليها.. لا تنسوها.. دارنا في البلد طينة كبيرة من حجر قدسي وبيت أبي كبير".
وما أن انتهت من حديثها حتى بدت قامتها أكثر طولا بعد أن دفعت بما لديها من ذكريات خضراء اتفقت مع لون ثوبها الذي تناسق مع ثلاثة خواتم ذهبية في أصابعها.
وستظل نكبة فلسطين حاضرة في ذاكرة الحاجة أمينة وغيرها ممن ذاق مرارة الهجرة..