لم يمض على استخلف أبي بكر الصديق رضي الله عنه أيام حتى وجد الجزيرة العربية تعج بالخارجين عليه ، يحركهم كل طامع في الدنيا أو حاقد على الإسلام ممن تظاهروا بالدخول في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم طمعا في عطائه أو مجاراة لانتصاراته التي أبهرت الجميع ، ولكنه رضي الله عنه لم يضطرب لذلك ، بل لم تهتز له شعرة ـ إن صح التعبير ـ وأنى له ذلك وقد عايش الإسلام من بزوغ شمسه ، ورأى تأييد الله لكل من اعتنق ـ عن صدق ـ هذاوبعد مشاورات عاجلة مع أصحاب الرأي في مجلس حكومته بدأ يغير من تكتيكاته العسكرية التي سبق أن أعدها لردع الروم بالشام ، فكتب إلى قواده أن يجتمعوا للروم في زحف واحد بدلا من أن يقاتلوهم في ساحات عدة ..
وكان من قبل قد انتدب عمر بن العاص لفلسطين وأمده ببعض من انتدب إلى من اجتمع إليه ، وأمره بطريق سماها له ، وأوصاه قائلا ".. اسلك طريق إيلياء حتى تنتهي إلى أرض فلسطين، وإياك أن تكون وانيًا عما ندبتك إليه، وإياك والوهن، وإياك أن تقول: جعلني ابن أبي قحافة في نحر العدو ولا قوة لي به، واعلم يا عمرو أن معك المهاجرين والأنصار من أهل بدر، فأكرمهم واعرف حقهم، ولا تتطاول عليهم بسلطانك.. وكن كأحدهم وشاورهم فيما تريد من أمرك، والصلاة ثم الصلاة، أذن بها إذا دخل وقتها، واحذر عدوك، وأمر أصحابك بالحرس، ولتكن أنت بعد ذلك مطلعًا عليهم..".
وكتب إلى الوليد وأمره بالأردن ، وأمده ببعض من حضر لديه أيضا من المتطوعين للجهاد ، ودعا يزيد بن أبى سفيان فأمره على جند عظيم ، وجعل فيهم سهيل بن عمرو وأشباهه من أهل مكة ، وشيعهم ماشيا ، فقال يزيد : يا خليفة رسول الله !! أتمشي وأنا راكب ؟؟ فأبى عليه وقال : إني أحتسب خطاي في سبيل الله ، واستعمل أبا عبيدة بن الجراح على بعض من اجتمع لديه أيضا ، وأمره على حمص ، وأوصاهم قبل الزحف بقوله : "وإني موصيكم بعشر كلمات فاحفظوهن: لا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا صبيًا صغيرًا ولا امرأة، ولا تهدموا بيتًا ولا بيعة، ولا تقطعوا شجرًا مثمرًا، ولا تعقروا بهيمة إلا لأكل، ولا تحرقوا نخلاً ولا تُغرقوه، ولا تعصوا، ولا تجبنوا…"
أقول : اتفق رأي أهل المشورة على أن تجتمع الجيوش المتفرقة بالشام لمجابهة الروم في ساحة واحدة بعد الهزيمة التي ألحقوها بجيش خالد بن سعيد ، خاصة بعد أن جاءتهم الأنباء أن هرقل قد خرج إليهم بنفسه ، و نزل بحمص وأعد لهم الجنود ، وعبأ لهم العساكر ، وأراد إشغال بعضهم عن بعض بكثرة جنده وفضول رجاله ، حيث أرسل إلى عمرو أخاه تذارق في تسعين ألفا ، وبعث قائدا يسمى جرجة بن توذرا إلى يزيد بن أبى سفيان بما يقارب ذلك العدد، وبعث ثالثا يسمى الدراقص إلى شرحبيل بن حسنة ، وبعث رابعا يسمى الفيقار أبي عبيدة في ستين ألفا ، في حين أن جميع فرق المسلمين واحد وعشرون ألفا و ستة آلاف مع عكرمة ..
ووصلت رسالة أمير المؤمنين إلى سائر القادة بعد هذا الرأي " أن اجتمعوا فتكونوا عسكرا واحدا ، والقوا زحوف المشركين بزحف المسلمين ، فإنكم أعوان الله ، والله ناصر من نصره ، وخاذل من كفره ، ولن يؤتى مثلكم من قلة ، وإنما يؤتى العشرة آلاف والزيادة على العشرة آلاف إذا أتوا من تلقاء الذنوب ، فاحترسوا من الذنوب ..
وبلغ شأن اجتماعهم هرقل فكتب إلى قاداته أن اجتمعوا لهم ، وانزلوا بالروم منزلا واسع العطن ، واسع المطرد ، ضيق المهرب ، و ليكن على الناس التذارق وعلى المقدمة جرجة وعلى مجنبتيه باهان والدراقص وعلى الحرب الفيقار ، وأبشروا فإن باهان في الأثر مددا لكم ..
وفي منطقة أجناد ين بين الرملة وبيت جبرين سنة ثلاث عشرة من الهجرة كانت أول وقعة عظيمة بين المسلمين والروم بالشام* حيث التقت الفئتان ودام القتال بينهم شهرين تقريبا ، حتى إذا أحس المسلمون أنهم لا يقدرون من الروم على شيء ، ولا يخلصون إليهم لكثرة عددهم كاتبوا أبا بكر رضي الله عنه بالأمر ، وطلبوا منه المدد ، فكتب إلى خالد بن الوليد بالعراق ليلحق بهم ، وأمره أن يخلف على المجاهدين بالعراق المثنى **، فجد في الرحيل حتى التقى بهم ، وبوصوله ارتفعت الروح المعنوية للمسلمين فازدادت جرأتهم على الروم الذين لم ينفعهم قدوم باهان صاحب النصر السابق على خالد بن سعيد ، فقد هزمهم الله شر هزيمة ، ومزقهم كل ممزق، وقُتل منهم خلق كثير ، وتحقق للمسلمين النصر المؤزر ..
وشاء الله أن يكون أول قتيل من الروم هو باهان الذي أوقع الهزيمة من قبل بخالد بن سعيد ، حيث خرج بكبريائه مبارزا فبرز إليه عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب فقتله ، ولم يتعرض لسلبه ، ثم برز إليه آخر فاقتتلا بالرمحين، ثم صارا إلى السيفين، فحمل عليه عبد الله بن الزبير فضربه وهو دارعٌ على عاتقه، وقال: خذها وأنا ابن عبد المطلب فقطع بسيفه الدرع وأسرع في منكبه، ثم ولّى الرومي منهزماً ، فعزم عليه عمرو بن العاص أن لا يبارز خشية وشفقة عليه من القتل ، إذ لم يمكن قد تجاوز الثلاثين من عمره ، فقال عبد الله : إني والله ما أجدني أصبر.
وانتهى خبر الوقعة إلى هرقل وهو بحمص فمُلئ رعباً وهرب منها إلى إنطاكية ، حيث لم تفلح جيوشه مجتمعة أو متفرقة في التصدي لجيش من المسلمين لا يصل تعداده 30 ألفا ..
وأما من نجا من جنوده ففروا إلى إيليا وقيسارية ودمشق وحمص فتحصنوا فيها..
وفور انتهاء القتال كتب خالد بن الوليد إلى أبي بكر رضي الله عنهما يقول: أخبرك أيها الصديق أنا لقينا المشركين وقد جمعوا لنا جموعاً جمة بأجنادين ، وقد رفعوا صلبهم، ونشروا كتبهم ، وتقاسموا بالله لا يفرون حتى يفنونا أو يخرجونا من بلادهم ، فخرجنا إليهم واثقين بالله متوكلين عليه، فطاعناهم بالرماح شيئاً ، ثم صرنا إلى السيوف فقارعناهم بها ، ثم إن الله أنزل نصره وأنجز وعده ، وهزم الكافرين ، فقاتلناهم في كل فج وشعب وغائط ، فالحمد لله على إعزاز دينه وإذلال عدوه ، وحسن الصنع لأوليائه والسلام