الخبز وعيون الأطفال
حين كان عبد الرحمن يسير في الشارع الرئيسي يوم الأضطرابات ..
لم يكن قد بلغ العقد الرابع من العمر
حين فاجأته رصاصة طائشة استقرت في رقبته وكادت أن تنفذ
, فقد كان أمرا عاديا أن يموت الأنسان بأي شيء وبأي ثمن ..
ولم تكن صرخته المكبوتة شيئا ملفتا للنظر..
وسقوطه على طرف الطريق
على بعد خطوات أربعة من صفيحة قمامة مهملة..
لم يكن يعني سوى أن شيئا ما سقط وانتهى !!
لم يكن بالرجل المغامر كان ينادي بالقناعة
والعمل الدؤوب . وكانت عائلته أطفاله الثلاثة ووالدتهم
راضون كل الرضى بمسلكه ويعتبرونه رب عائلة مثالي .
الا أن اصراره على الخروج ظهر ذلك اليوم
جاء مفاجأة للعائلةيكفينا رغيف الخبز هذا .
قالت زوجته وقد تشبثت بذراعه حين لمست في عينيه التصميم
على مغادرة البيت في ذلك الظرف المميت .. وأضافت :
نحن بحاجة اليك أكثر من رغيف الخبز ..
.. لنا يوما وليلة لم نذق الطعام ..
فليكن يومين أو ثلاثة .. أتوسل اليك ..
والتفت الرجل الى أطفاله المحيطين به
بعيونهم المحمرة وأنوفهم التي تسيل ..
اثر سقوط قنبلة مسيلة للدموع ..
بالقرب من الحائط الغربي لبيتهم الواقع ..
في نهاية الشارع العام . قال طفله البكر ذو العشرة أعوام :
أنا أذهب يا أبي !!!
أجابت والدته :
أذا كان لا بد من خروج أحدنا فليكن أنا !! أنا امرأة
فربما كان الأمر يسيرا بالنسبة لي ..
التفت اليها زوجها بعينين مذبوحتين
.. وأبقى أنا في البيت ..؟!!
تخرجين أنت وأبقى مختبئا كالنعجة ..
لا عاش أحد في الدنيا أن حصل هذا !!
خطوة أثر خطوة جر الرجل أقدامه بتثاقل ..
وهو يسمع أزيز الرصاص يجوب الفضاء ..
المتماثل أمام عينيه المفتوحتين عل آخرهما ..
كان يرقب كل شيء.. كل الأتجاهات ,
وحين كانت ترتطم رصاصة عشوائية بجدار قريب من مكانه..
يغمض عينيه ويتوقف بضع لحظات ثم يتابع مسيرته المجهولة !!
وفي احدى المرات مرقت بالقرب من
رأسه رصاصة ضالة فأحس وكأن الدنيا اصيبت بالدوار ..
كل شيء أصبح له دوي ..
وماجت الأشياء أمام ناظريه .. ما الذي يحدث !!
الى أين !! ومن غير أن يدري ..
ودوى أنفجار قوي في شارع جانبي ..
وتصاعدت كتلة من الدخان الأسود .. صوت امرأة تصيح ..
أصوات أنهيارات وخليط من الصياح والأنهيارات , رائحة البارود
تعبق في كل الأرجاء .. الخبز وعيون الأطفال ,
الموت المتوثب في كل خطوة
..انحرف جانبا من الشارع ليتفادى خطر الأصابة ..
حرارة الشمس تلفح الأسفلت ..
والوجوه والبنادق .. ماذا حصل ؟ كل الأشياء صارت ملونة ..
ألوان غريبة لم اشاهدها من قبل .. نجوم في عز الظهر..
أين أنت يا أيام العز والطمأنينة ..
كنا لا نعرف تجارة الخبز والماء ..
ما هذا الصداع الشديد ..
تلاشت الألوان صارت باهتة ..
لقد جف حلقي وامتلاُ مرارة .. كانت الحياة ثمينة وغالية ..
كل نقطة دم تضيع خسارة لا تعوض ..
اليوم كل شيء يباع ويشترى ..
تريد خبزا ماءٌ ..تريد حياة .. يجب أن تدفع !!
وشعر بحاجة ملحة للتقيؤ اثر ارتطام شيء برقبته ..
وأحس وكأنه يغوص في بركة ماء مثلج ..
تلاشى الضوء في عينيه .. أصابه دوار فظيع
قبل أن يترنح بضع خطوات وتسقط احدى قدميه في مجرى متشقق للمياه
القذرة .. ثقلت رأسه وامتلأت طرقا حادا ..وفي الطرف الآخر..
أحست الزوجة وكأن قلبها قد سقط بين قدميها ..
وهدأ صراخ الأطفال فقد كان أمرا مهما يجري هناك من أجلهم