عمر بن الخطاب و«خارطة الطريق» [/url]
الأحد, 18 تموز 2010 00:00 تيسير الغول
تعظيما لشعائر الله، واستجابة لدعوة الحق سبحانه، عقدت العزم لشد الرحال إلى بلاد الحجاز لأداء مناسك العمرة، وزيارة مكة المكرمة التي شرفها الله تعالى من جبروت أبرهة وطغيان جيشه، وبصفتي عربيا أسكن في الشام، حيث إن الرحلة ستكون كثيرة التفث عبر الصحراء الجافة المقفرة، والتي توهن القانع، وتضعف المعتر، وتجعل الإبل السمان ضوامر، أخذت زادي وحمولتي وركبت جملي سائرا إلى البيت العتيق. في الطريق مررت بقبائل عربية شتى، فقد مررت بديار بني بكر وبني عبد الأشهل وبقبيلة بني مخزوم وبني عدي، وعندما وصلت يثرب رأيت خراب بني النضير ونخيل بني قينقاع، ثم حط بنا المقام إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فصلينا في مسجده، وسلمنا على قبره الشريف، حيث لبثتت في المسجد ثلاث ليال أصلي في رياض الجنة، أطوف ليلا على بيوت الصحابة، أشْتَمُّ رائحتهم، وآنس بجوارهم، وأتبرك بعطر ثراهم. وفي آخر يوم من أيام مكوثي في المدينة، وقبل خروجي إلى مكة، ذهبت إلى سوق المدينة فوجدته عامرا بالتجار والمتسوقين؛ أنواع التمور الكثيرة، والتوابل المختلفة، والأقط والقديد والحبوب بأنواعها، والخيول الأصيلة العائدة من غاراتها. ولكن الذي لفت انتباهي أن جميع من في السوق ينظر إليَّ نظرة استغراب محفوفة بالخشية والحذر. فصرت أترقب أنفاسي، وأمشي على استحياء وحذر. حتى وصلت إلى شجرة كبيرة ينام تحتها رجل ضخم الجسم، كث اللحية، مستلقٍ على ظهره، وبجانبه عصًى غليظة. فسألت أحد المارين: من هذا الرجل؟ فقال: إنه أمير المؤمنين. فتهلل وجهي فرحا، وقلت في نفسي: لعلي أسعد بلقاء أمير المؤمنين، فأكون قد حصلت على فرحتين، فرحة لقاء ربي في بيته العتيق، وفرحة لقاء أمير المؤمنين. فاقتربت منه لعلي أرى وجهه الذي طالما تمنيت أن أراه. ولكنه فجأة استيقظ من نومه، فرآني واقفا فوق رأسه، فنظر إليَّ نظرة مليئة بالاندهاش. ثم سألني قائلا: من أنت؟ ولماذا أنت حليق اللحية والشارب؟ ولم أنت حاسر الرأس غريب الهيئة والخِلْقة؟ هل انت من أهل فارس أم الروم؟ كل هذه الأسئلة انهالت عليَّ فاحترت في الرد عليها بعد أن تلبَّكَ لساني الذي لا يستطيع حتى التكلم بالعربية الفصيحة التي أسمع. ولكنني لملمت نفسي، وربطت جأشي، وأجبت وأنا مقطوع النفس من شدة الخوف الذي اعتراني، وقلت: يا أمير المؤمنين، أنا عربي مسلم من الشام. وما أن أكملت الإجابة حتى صاح في وجهي قائلاً: عربي مسلم، وأنت على هذه الهيئة الغريبة؟؟ ما الذي حل بكم في الشام حتى أصبحت هيئاتكم هكذا؟ أظنكم إن صدقت بكم فراستي قد رجعتم القهقرى، وعدتم من حيث بدأتم، فركنتم إلى الدنيا، وأصبحتم غثاء كغثاء السيل، فتقاسمتكم الدنيا، وقضت على شأفتكم الأمم. اصدقني القول يا هذا، أليس هذا صحيحا؟ فقلت له: نعم ولكن... فقطع عليّ الكلام، وقال: ولكن ماذا؟ أليس فيكم جند الكنانة والشام والسواد!!! أين أحفاد خالد وعمرو بن العاص وعبدالله بن رواحة، ألم نمهد لكم الطريق، وفتحنا لكم البلاد طولا وعرضا؟ فلم تذهب بكم الأيام حتى ضيعتموها، فسلط الله عليكم الوَهَنَ وحب الدنيا؟ فوالله لأجعلنك عبرة للمعتبرين، ومثالا للباقين. ثم هوى علي بدُرَّتِه ضربا باليمين، وهو يقول لا حول ولا قوة إلا بالله، إني أبرأ إلى الله منكم ومن أفعالكم. وأنا أتوسل إليه قائلا: الرحمة يا أمير المؤمنين... لكنه لم يتوقف عن ضربي، فحاولت أن أهرب من أمامه فتعثرت قدماي، ووقعت منكفئا على وجهي، وإذا بي أصحو من كابوس ثقيل وأنا أتصبب عرقا، حيث أفقت وما زال صوت امير المؤمنين يدوي في أذني وهو يحوقل على أمة وضعت سيوفها في القراب إلى غير رجعة. أفقت حيث كنت في قيلولة في المسجد النبوي الشريف، فرأيت في أم قلبي هذه الرؤيا التي لا تحتاج إلى تأويل ولا تعبير، فاستغفرت الله تعالى وارتجعت إليه، ثم تفقدت جيوبي فتأكدت أني مازلت أحتفظ بجواز سفري العربي، والذي تنتسب به عروبتي وكياني، وعقالي والذي أيضاً بدونه لا أستطيع أن أقطع فجا ولا واديا.
أما أنت يا أمير المؤمنين فالمعذرة كل المعذرة إليك؛ لأنك رأيت عرب القرن الحادي والعشرين بشخصي. المعذرة إليك على ما رسمت لنا من طرق فضيعناها، وفتوحات ودماء فما رعيناها حق رعايتها. لن أذكر اسمك، فاسمك أعلى وأجل من أن يذكر في صفحات جرائدنا الملوثة، وأحبارها المسمومة. يكفي أنك أمير المؤمنين. وكيف لا تكون للمؤمنين أميرا وكلهم أمراء مؤمنين. لكنك أشدهم بأسا، وأقومهم حجة، وأحزمهم رأياً وعزماً وحلماً. لقد أضعنا مفتاح بيت المقدس الذي استلمته بيدك الشريفة، وأحللت السلام بعهدتك العمرية، وبنود خارطة طريقك التي وضعتها للناس، والتي كان من أهم بنودها إخراج اليهود الأنجاس من القدس، وعدم السماح لهم بدخولها تحت أي ظرف، ولكن.. والهف قلبي وأسفي، فقد عاد اليهود إليها من جديد، وعاثوا فيها فساداً، ودنسوا عتبة البيت، وأحرقوا المنبر والمحراب.
أحمد الله تعالى أنك لم تسألني عن كل ذلك يا أمير المؤمنين، واكتفيت بضربي بدرتك الطاهرة العادلة، والتي افتقدناها في هذا الزمان الذي تغيرت فيه قواميس البشرية ونواميس الحياة.
عد إلى قيلولتك يا أمير المؤمنين، فقد أزعجْنا رقودَك بسخفنا وهواننا وضعفنا، فالمعذرة إليك مما نفعل ونفعل، وقرَّ عيناً، فقد عدلت فأمنت فنمت، والسلام عليك فقد طبت حيا وميتاً.