هذه الأحداث مستوحاة من مذبحة طور الزاغ في قرية الدوايمة !
الأسماء الواردة غير حقيقية
----------------------------
كان يوما اسودا , توالت فيه المصائب تباعا , جنود قساة القلوب يلاحقون الأهالي ويطلقون النار , مرة ارهابا ومرة قتلا متعمدا , خرجنا من البيت نتدافع مذعورين , فقد أقتربت احدى الدبابات من منزلنا وصارت تطلق النار , هذه هي المرة الأولى التي اشاهد فيها مثل هذا الوحش الحديدي ! لم أرى جنودا ظاهرين ! كيف تطلق هذه المتوحشة القذائق القاتلة ؟ وقعت احداها على بيت ابو خليل من الناحية الجنوبية , فقد سمعت ان أولاد ابو خليل الثلاثة كانوا يعملون في مدينة يافا " شغيلة مياومة " وأنهم جمعوا المال لبناء هذا المنزل , وبعد أيام سيكون " عرس الأبن الأكبر خليل , قالت والدته التي كانت تعرج على منزلنا وهي عائدة من جولتها حين كانت تبحث عن عروس بنت حلال كما كانت تخاطب امي ! الآن صار المنزل وسكانه مستويا مع الأرض , لا أحد يهتم , الكل يهربون في اتجاه الشرق , من غير عناوين ! ! , اركضي يا بنتي , حاضر يمه ! مررت بشيخ يجر أقدامه من شدة التعب والأجهاد باديا عليه : يا شيخ وين رايحه هالناس ؟ الله أعلم يمكن رايحين ( ع طور الزاغ ) ! وين طور الزاغ ؟ قدام ! بعيد يا شيخ ؟ امشي امشي بتلاقيه قدامكي , اذا انت رايح يا شيخ خذنا معاك ! يا بنتي الله يهديك هو انا قادر أمشي ! خذي بنتكي وروحي الله يسهل عليكي . . وخذي ابريق هالميه بلاش تعطشو الدنيا شوب , ونت يا عم , انا بدبر حالي توكلي على الله ! انت بنت مين يا عم ؟ انا بنت الحج علي ابو مرشد ! ما شاء الله وهاذي بنتكي ؟ آه يا عم ! ديري بالك ع بنتكي اوعي اليهود يوخذوها ! وقعت كلماته كالصاعقة !وكمن كانت في غفلة فوقعت عليها صخرة عظيمة فأستيقظت ! أحتضنت البنت ! اسمها فاطمة , كانت في الرابعة عشر من عمرها .. مثل الوردة ! بدى عليها الحزن والخوف قالت يا امي لا تخلي اليهود ياخذوني ومالت علي وشدتني الى صدرها وهي تنشج في بكاء صامت ! دارت بي الأرض ! معقول .. اليهود بياخذو البنات ؟ مش بعيد عنهم ! والله والله اللي يقرب عليك لآكله بسناني , وسحبتها الى حيث يتجه الناس !! ما الذي يجري ؟ أنظر الى فاطمه بعينيين دامعتين وأضمها الى صدري , حبيبتي والله لأخبيك في قلبي مش في آخر المغارة ! تعالي .. وأسرعنا الخطى .. يا ترى وين هالمغاره . ومشينا في خطى متثاقلة .. تعبنا تعبنا .. توقفت فاطمه عن المسير.. قلبي عليك يمه .. تعبتي يا حبيبتي ! مش قادره أمشي يمه ! رجليه بيوجعوني .. متورمات ! فاطمه وين حذاك ؟ مش عارفه ونا بركض وقعت فردة معرفتش امشي رميت الثانية ! من زمان ؟ مش عارفه يمه ! اسمعي خذي حذاي ! ونت تمشي حافيه يمه ؟ والله لو بتقطعن رجليي ما عملتها انت روحي قدامي وهيني لاحقك ! ايش اللي بتقوليه أنا أخليكي وراي ؟ ايدي ف ايدكي ! كنت خايفه عليها .. بعدها زغيره .. قبل شهر اجاها خطاب .. ولد سبع .. اله أرض وعنده بقرتين وبيجي خمسين راس غنم ومفش غير امه وأخته وابوه متوفي الله يرحمه وأجلناها عشان خاطر جيرانا ابوهم مات من شهرين وقلنا عيب لازم الواحد يشد خاطر للناس ! صاحت فاطمه : يمه يمه انت سامعه صوت الطخ ؟ سامعه بس الصوت بعيد ! والله سامعيته يمه انا خايفه ! متخفيش خليكي جنبي , اقترب منا حشد من الناس نساء وأطفال وأولاد كبار .. مرهقين متعبين , طلعنا من نفس الحاره .. معك ميه يام فاطمه ابني الزغير نشفان ريقه ! من وين بدها تيجي الميه ؟ الأبريق اللي كان معانا خلص ورميناه ! الله يفرجها وانتو وين رايحين ؟ جهة طور الزاغ في شايب لاقاني ع الطريق وقلي روحي عليه ! ييييييييه كود هذا الشايب اللي لاقيناه ميت قبل شوي جنب الرجم , حسيناه لاقيناه سخن تقول هاللحين مات ! لاقيتوه مطخوخ ؟ لا مش طخ , مبين عليه مات من العطش لاقيناه فاتح ثمه ولسانه طالع بره ! ياااااااااااااه وبكيت بحرقه ! مات م العطش ؟ احنا اللي موتناه وصرخت احنا اللي موتناه .. يا رب سامحنا .. شايفه يا فاطمه !! أعطانا الميه يشربنا وهو مات من العطش !! طولي بالكي يا بنت الحلال هو الواحد بعرف هذا نصيبه .. لأ مش نصيبه احنا اللي موتناه احنا اللي اخذنا الميه منه ! يجعلنا م شربنا لوانا متنا أحسن !! ايش هالعيشه اللي بتقصر العمر !! يمه .. الطخ قرب ! قرب قرب خلينا نموت أشرف النا , الله يرحمك يا شيخ ! يالله يم فاطمه خلينا نمشي ! يختي ركبي مش حاملاتني , انا تعبانه مبين علي رح اموت من القهر من الطخ مش عارفه , امانه يختي اذا صارلي اشي ديري بالك ع فاطمه حطيها ف عينيكي ! يا وليه ايش لازميته هالحكي امشي امشي ! هو احنا مطولين تنوصل هالمغاره ؟ يالله ي ولاد اركضو قربنا نصل ! صحيح قربنا ؟ لا بضحك عليهم عشان يمشو ! ومشينا في خط طولي ورا بعض ! اصوات الطلقات النارية تتقارب وهدير الدبابات صار واضحا , وسحب الدخان تملأ الجو ! اصوات انفجارات قويه ! وين بدنا نروح يل ربي ؟ صراخ الأطفال بدأ يعلو .. متخافوش ! الطخ بعيد ! تعالي يا فاطمه خليكي جنبي يمه ! بموت لو صارلكي اشي ! سلامتكي يمه انا ولا انت .. امشي يا حبيبتي سامعه صوت ناس , مبين علينا قربنا ! قالت الجاره والله ماني عارفه هالمغاره قديش بدها تسع تراها معبيه ! سحب الدخان تحيط بالمكان ورائحة البارود تضيق الأنفاس ! يالله قربنا يا ناس , امشو اسرعو ! تجمع كبير من الناس بدأ أمامنا وأصوات كلام وبكاء وصياح ! الناس في ضياع ينادون على بعضهم , يتفقدون أولادهم وأقربائهم ! اقتربنا منهم , قال احدهم يالله خشو ف المغاره محدش يظل بره ! صاحت امرأة : ياخوي هالحين بيشوفونا بيقتلونا كلنا ! قال الرجل بلهجة واثقه : منين بدهم يشوفونا والله القرود م بتعرف مطرحنا , خشو جوا اركضو ! اللي معه أغراض يحطهم فوق ظهر الطور عشان يوسع الناس من جوه ! هي كمان في ناس جاييه علينا ! وامتلأ ظهر الطور بحاجيات الناس ! فرأيت ماكنة خياطه وجرار وطناجر وصفائح وفرش وألحفه وصرر مختلفة الأحجام , صار المنظر علامة مميزة للمكان , الناس تدخل الى المغاره بغير انتظام ! رجل يسأل ابنه الشاب : حطيت الغراض كويس يابا ؟ تصيح فتاة من الداخل : هيه يا جده تعالي هينا هان ! ولد صغير يبكي بصوت عالي ! يصيح رجل من الداخل : وين امه هالولد تسكته بلاش فضايح ! هالحين بيسمعونا اليهود ما حد يطلع صوت ! صاح به احد الشيوخ : اسكت ! انت اللي صوتك بيجيب التايه ! يا ختيار بدي أسكتهم لا حول ولا قوة الا بالله ! فيقول له آخر : طول بالك يابو محمد ! خلينا نرتب حالنا ! خاطبني احدهم تعالي يختي انت وبنتك اقعدو ف القرنه هاذي ! يا جماعه اهدو ! أصوات رصاص وانفجارات تقترب وتسلل الغاز المزعج الى الداخل , مين معه بطانيه بدنا نحطها عالباب ؟ اجاب احدهم : معنا وحده ع ظهر الطور ! روح يا ولد جيبها ! الحرارة في الداخل بدأت ترتفع ! اصوات بكاء خفيفة ! انفجار قوي يهز المكان وتتساقط الأتربة من سقف المغارة ! الكل أخذ يلتصق بالآخر وانتاب الناس خوف شديد ! فاطمه خليكي جنبي اوعي تبعدي ! لا تزال كلمات الشيخ ترن في اذني : ديري بالك ع بنتكي احسن ياخذوها اليهود ! تحسست فاطمه وطبطبت عليها ! وين ياخذوها ؟ لا لن أسمح لهم ! هذا الوجه الذي يشبه الصبح يروح مني ؟ أصوات في الخارج ولغط غير مفهوم .. هاذول مش عرب , والله هاذول يهود ! وساد الصمت في الداخل ! فتاة صغيره ملقاة على التراب ترتعش ودموعها تملأ وجهها ولا صوت للبكاء , الأرض وسقف المغارة يهتزان وتتساقط حجارة صغيرة على رؤوس الناس وفي الزاوية كان يختبىء معنا بعض النمل الأسود ! الآن وضحت الأصوات وهدأ صوت المركبات ! انهم جنود اليهود خارج المغارة ! أقدام ثقيلة تقترب ! لقد وصلوا !! تحسست فاطمه ! وزاد خفقان قلبي , اضطربت قليلا ولكني تماسكت من أجل فاطمة ! أريد أن أخفيها عن كل العيون لن أستطيع فراقها ! فاطمة الجميلة تطل علي في الصباح زهرة أريجها يفوح بأبتسامة تضيء أيامي بعد فراق والدها لي وزواجه بأخرى ! عشت اياما صعبه ! الطلاق مر مثل العلقم ! لا يمكن وصفه الا لمن تجرعه وعرف الآمه ! ولكني كافحت وصبرت وتحملت من أجل هذه الصبيه الحلوه , كنت أرى فيها صباي وشقاوتي والدلال الذي عشت فيه مع أهلي .. اصوات أقدام تقترب من مدخل المغارة ! فاطمة لا تزال بقربي , زادت ضربات قلبي وعلا صوت تنفسي ! ثم .. صلية من رشاش ثقيل أطلقها أحد الجنود ترهيبا ! يالله كله بره .. بره احسن بيموت ! قالها بالعربية ! وخرج الناس يتدافعون وبكاء الأولاد يعصف بالمكان ! يا الله كم هي ثقيلة تلك اللحظات ! فاطمة تلتصق بي تشدني الى جسمها النحيل ! انا خايفة يمه ! طنين غريب ملأ سمعي ! لم أعد أسمع الا صوت الجندي : الزلمه ع جهه المره ع جهه يالله قوم !! مرت لحظات بعمر السنين ثقيلة الوقع جافة متحجرة ! احنا ايش .. مش ولاد ناس برضه ؟ وهذا الجندي اللعين بوجهه النكد يتحكم بهذه الوجوه القروية الطيبة ! هؤلاء الرجال كانوا محترمين في قريتهم تسمع لهم حين يتكلمون في مشاكل البلد ! والآن يمسك هذا الجندي ببندقيته يصوبها الى صدورهم وهم عزل لا يقوون على شيء ! ومن ثم يتشدقون بحقوق الأنسان وحقوق المدنيين في الحرب وأن لهم الأمن والسلامه ! أين هو الأمن ؟ جندي واحد لا يساوي شيئا في ميزان الرجال لولا هذه البندقية القاتلة ! اللعنة عليكم يا قتلة ! تجمع الناس في مكان فسيح قريبا من المغارة ! الرجال في ناحية والنساء في ناحية اخرى ! وكان ترتيبي في منتصف الصف الأول ! فاطمه تمسك بي بقوه ! صف من الجنود يقفون قبالتنا مصوبين أسلحتهم نحونا ! صاح أحد الجنود : انت با بنت ابعد شويه ! كأنه يخاطب فاطمة ! ولم تفهم فاطمة ولم تبتعد اقترب منها الجندي قليلا : انت مش سامع ابعد شويه ! ولم تبتعد فاطمة ! قالت كلمة يمه بخوف شديد ! اقترب الجندي أكثر وبندقيته تسبقه حتى لامس صدر فاطمه وقال لي : هذا بنتك ؟ توقف لساني عن النطق فهززت برأسي , وأخذ كلام الشيخ يرن في أذني : ديري بالك اوعى تخلي اليهود ياخذوها ! قال الجندي بنتك حلو كثير ! أنزل بندقيته قليلا واقترب من فاطمة ! امتلأ رأسي ضجيجا وأخذ أنفاسي تعلو .. راحت مني فاطمة ! توثبت في داخلي كل معاني الشرف ! لا ايها الجندي القذر ! لا تفعلها ! لا تلمس شعره من رأسها ! الجندي يقترب ويمد يده الى صدرها ! صحت به ارفع ايدك يا كلب وهاجمته وأطبقت يداي على رقبته فأخذ يصيح :
تقول المرأة التي كانت بجوارها وكانت هي الناجية الوحيدة من المذبحة !
ام فاطمة هاجمت الجندي بقوة وأخذ يختنق حتى سالت الدماء من رقبته حيث غرزت أصابعها ! أجتها القوة ! الله أعطاها القوة ! ولم يتمكن من اطلاق الرصاص عليها فقد كانت ملتصقة به تماما الا أن جنديا آخر عاجلها بطلقة ثم أخرى ولم تسقط بل ظلت يديها متعلقة برقبة ذلك الجندي الى أن ماتت ! ثم حدثت المقتلة ! حيث أخذ الجنود يطلقون النار يمينا ويسارا وتساقط الناس وسقطت على الأرض معهم وأبنتي الرضيعة الصغيرة بين يدي ! فوقعت فوقها فكتمت أنفاسها ولم تصرخ وتوقفت عن التنفس خوفا من عودة الجنود للقضاء على الجرحي وغرقنا جميعنا في لجة من الدم ولم يعد الجنود يميزون بين القتيل والجريح ! فقاموا باطلاق النار عشوائيا مرتين ثم عادوا أدراجهم . ولما لم أسمع صوت خطواتهم نهضت فتحسست نفسي وطفلتي فوجدت جراحا طفيفة ولما وقفت وشاهدت المنظر العام بحثت عن فاطمة فلم تكن بين القتلى فقد كانت بقربي وقت الحادثة ولكني لم أعثر عليها .. فقد أخذ اليهود فاطمة .. راحت البنت !!!