???? ??? زائر
| | رسالة بأمل الوصول | |
المصدر // المصري اليوم : رسالـــــــــــة بأمل الوصول ابنتى الحبيبة: إزىّ حالك. أكتب إليك هذه الرسالة وأنت تأكلين الآن رز باللبن والقشطة والمكسرات مع الملايكة، بعد أن قضينا يوما جميلا حافلا باللعب والضحك والجرى والمرجحة والحواديت التى لم تفهمى منها شيئا لكنك بكل جدعنة تحملتِ حماسى المبالغ فيه وأنا ألعب دور الأب الحكّاء، فقررتِ مشكورة أن تلعبى دور البنت المنبهرة بحكايات أب رأى أنه من العبث أن يحكى لابنته عن الشاطر حسن وأمنا الغولة فى زمن يسوده الشطار والعيّارون وسارقو الأحلام، وتتوارى أمنا الغولة خوفا من غيلان القصور الحاكمة والممولة والراعية للحكم، فقرر أن يحكى لابنته عن أحلامه فى أن تعيش يوما ما فى بلاد أقل سوءاً من التى عاش هو فيها.الغريب يا ابنتى أننى وأنا أحكى لك عن هذه البلاد التى حلمت بها أنا والأجيال التى سبقتنى كنت أرى فى عينيكِ حزنا رهيبا جعلنى أشك للحظة أنك تفهمين ما كنت أقصده، ربما التقطتِ حزنى بفطرتك الذكية وربما أنا الذى ظننت ذلك مبالغا فى قدراتك كعادة الآباء، لكننى شعرت أننى فى حاجة لأن أفسر لك سر ذلك الحزن الذى تملكنى وأنا أحدثك، فقررت أن أسجل ذلك على الورق لعلنا عندما تكبرين نقرؤه سويا ونضحك على عبط أبيك الذى لم يكن يعلم أن الأحوال ستنصلح، أو لعلنا نقرؤه سويا ونبكى على حال هذه البلاد التى تعشق أن تصبح على الذى باتت عليه، وربما لا أكون معك أساسا وأنت تقرئين هذا الكلام فأكون قد حاولت أن أجيبك عن سؤال يواجهنى كثيرا هذه الأيام، ولعله سيواجهك عندما تكبرين، هذا السؤال المفزع الذى يطاردنى كثيرا يا ابنتى هو ما الذى تريده بالضبط؟ ولماذا تكتب كل ما تكتبه؟ ولماذا لم ترض بالكثير الذى رزقك به الله، وقررت أن تتمرد وتلابط وتسوق العوج على الذين عاثوا فى الأرض فسادا وموالسة وزيفا وظلما؟ فأخشى ما أخشاه أن يصور لك أحد أن أباكِ كان مجنونا أو باحثا عن بطولة أو جاريا وراء وهم. وأنا يا ابنتى أقسم لك بالذى أنشأك فى أحسن صورة أننى لم أكن مجنونا أو بطلا أو موهوما. أنا كنت أنا، بأسئلتى الكثيرة وحيرتى وشغبى وكراهيتى للسير فى القطيع وحبى العارم للحياة، كل الحكاية أننى كنت أظن أن القلم لعبة لطيفة كما تظنين أنت الآن وأنت تلعبين بالأقلام التى أحضرها لك، لكننى تعلمت أن القلم لعنة تحرق صاحبها إذا لم يحمل أمانته التى اختار أن يحملها ظلوما جهولا.أنا يا ابنتى كنت واحدا من ملايين غيرى عشنا نحلم فقط ببلاد أقل سوءا، بلاد حقيقية، ليست موجودة فقط فى أحلام الشعراء وخيالات الروائيين، بالعكس، البلاد التى نريدها كانت على أيامنا موجودة على خريطة العالم يتمتع بها من لا يدينون بديننا ولا يتكلمون بلغتنا ولا يدّعون مثلنا طيلة الوقت أن لديهم أخلاقا وتراثا وقيما وتقاليد وهوية وحضارة. كنا نريد بلادا نعلم كيف يأتى حاكمها ومتى يرحل ولا نعلم من سيخلفه مسبقا، بل نكون بحاجة لأن نفكر جيدا قبل أن نقرر من سيخلفه. كنا نريد بلادا نعلم من يحكمنا فيها، هل هو الحاكم أم ابنه أم أصدقاء ابنه أم قوى غامضة لا يعلمها إلا الله. كنا نريد بلاداً لا يفتش فى ضمائرنا فيها إلا الله ولايجرؤ أحد فيها أن يصادر على تفكيرنا ولا على حريتنا ولا على مشاعرنا. كنا نريد بلاداً يأكل المواطن فاكهتها بشغف لا يشوبه قلق من المرض الخبيث، ويمتنع عن الإكثار من أكل اللحم لأن كثرته مضرة لا لأن كثرته مستحيلة.كنا نريد بلاداً نعلم لماذا تحارب ولماذا تسالم ولماذا ترفع صوتها بين الأمم ولماذا تخفضه، بلاداً تنحنى للعواصف دون أن تنبطح، وتلعب كل الأدوار فى السياسة الدولية إلا دور المحلل، كنا نريد بلادا لا تخنقنا بأوهام الريادة والسيادة والصدارة وهى تسير فى ذيل ركب الحضارة، كنا نريد بلادا لا يحتاج المحبون فيها إلى التخفى، ولا الحالمون بالجنس إلى الاغتصاب، ولا المنزلقون فى الزلات إلى اختبار الـ«دى إن إيه». كنا نريد بلادا يتمتع فيها الغنى بغناه دون أن يسرقه مسؤول أو يفرض عليه «الفردة» صاحب نفوذ أو يسرقه جابى ضرائب، بلادا فقرها ممكن الاحتمال، يحلم فيها الفقير بخروجه من فقره دون أن يتهمه الناس بأنه موهوم لا يدرك أن فقره سيسحقه وأنه هالك لا محالة. كنا نريد بلادا نعلم لماذا يتعرض الإنسان فيها للسجن وكيف يقضى ليلته فى السجن وماذا يأكل وكم مرة سيرى أهله وذويه ومتى سيخرج وما الذى سيفعله بعد أن يخرج. كنا نريد بلادا لا يُضرَب كُتّابها فى الشوارع ولا يختفون فى ظروف غامضة ولا يختارون تعرية ضمائرهم وأقلامهم خوفا من أن يجدوا أنفسهم عراة فى المقطم.كنا نريد بلاداً توصل الكهرباء إلى بيوت مواطنيها لا إلى مؤخراتهم، بلاداً تروى عطش أهلها بالمياه النقية ولا تغرقهم فى براميل المياه حتى يعترفوا بجرم لم يرتكبوه، كنا نريد بلادا نموت فيها لأن الله وحده أراد لنا ذلك، وليس لأن لدينا مستشفيات بها أطباء بلا ضمير، وعمارات بناها مقاولون بلا إيمان ورخّصها مهندسون بلا ذمة، ومسارح لا مخارج للطوارئ بها، وطرقا تعبر بسالكيها إلى الموت، وفقرا «دكر» يدفع الناس لقتل أنفسهم عندما يعجزون عن قتله. كنا نحلم ببلاد لا نبكى عندما نغنى لها، لا نخاف عندما نشكو منها، لا يراودنا الشك فى مصيرها، ونموت لأى سبب إلا القلق على مستقبل أبنائنا فيها. كنا نريد بلادا تشجعنا على حبها... لكننا يا ابنتى حيل بيننا وبين ما نريد ونشتهى تماما كما فُعِل بأسلافنا من الحالمين فى هذه البلاد الظالم حكامها لأهلها والظالم أهلها لأنفسهم ولبعضهم البعض، ولست أدرى فى هذه اللحظة التى أكتب لك فيها هل نرى يوما ما نريد أم نموت مثل أسلافنا قبل أن نرى ما نريد، وما كنا نريده كما ترين لم يكن وهما أو مستحيلا أو جنونا أو عبثا، بل كان حلما قابلا للتحقق لكن الوجوه الكريهة التى كانت سائدة فى زماننا لم تكن ترى ذلك ولا تريده، ولست أدرى هل سيكون فى الزمن الذى تكبرين فيه وتصبحين قادرة على فهم ما أكتبه لك الآن وجوه كريهة تمنعك أنت وجيلك من رؤية ما تريدونه، أرجو من الله ألا يحدث ذلك وأن تكونوا أسعد حظا منا، فتشهدوا لأول مرة تغييرا حقيقيا فى هذه البلاد التى ظل العالم كله يتغير وهى تتحايل على التغيير بألف شكل وشكل، تغير جلدها وشكلها أحيانا لكنها لم تغير أبدا جوهرها.سأشعر بسعادة يا ابنتى لو كنت إلى جوارك بعد عشرين عاما ورأيتك وأنت تقرئين كلامى هذا وتسخرين منى ومن جيلى لأننا كنا نحلم بأشياء هى بالنسبة لكم بديهيات لا ترقى إلى أن تكون أحلاما. وسأشعر بالرضا لو جئتِ إلى قبرى وقرأتِ لى وعلىّ الفاتحة ثم قلتِ لى إنك الآن ترين ما كنت أريد.ليس ذلك بكثير على الله يا ابنتى فالله يفعل ما يريد.. فقط عندما يسعى عباده لأن يعيشوا فى بلاد أقل سوءا. |
|
الأربعاء يناير 26, 2011 9:11 pm من طرف رمضان رجب أبوخضره