*****
ضاق ( عبود ) بشجرة الجميز ذرعاً
تلك الشجرة العملاقة .. المعمِّرة .. المتجذرة في حديقته المنزلية , منـذ جـدِّه الغارس الأول , وسط دوحة غنَّاء من شتائل الورد والرياحين إلى زهور الفـل والياسمين , وقـد آلت إليه كابراً عن كابر , مع وصـيَّة تناقلتها الألسن عـن أبيـه وجـدِّه بالحفاظ عليها إرثاً وتراثاً للعائلة .. حيث رأى فيها شـجرة قـد تحوَّلت إلى فنـدق خمس نجـوم لعصافير القريـة وحساسينها .. تأوي إليـها مـن غروب الشمس إلى شروقها .. تملأ فنـاء المـنزل زقزقـة وشقشقة .. وكأنها لا توجد شجرة سواها .
استبد به الضيق من هذا الفرقة الموسيقية النشاز , التي لا تأذن بانتهاء لا في صباح ولا في مساء .. فما كان منه إلا أن حمل فأسه ذات نهـار في سـابقة خطيرة غير مألوفة في العائلة , وفي نصلها الماضي قرار بالقطع .. ضاربـاً بالوصيَّة عرض الحائط , مُصمَّاً أذنيه عن توسلات الأم والزوجة بعدم المساس بها , ووضع قراره موضع التنفيذ , وراح ينهال على جزعها ضرباً باليمـين فكان كلمـا ألحق بها جرحاً , اشتمَّ رائحة عطريَّة زكيَّة , تفـوح مـن جرحها النازف ... إلى أن تهاوت على نفسها دون أن يبقى من جزعها سـوى مؤشر صغير ... أبى إلا أن يتشبث بالأرض , وخيَّم على المنزل وجوم غريب حزنـاً على الراحلة الغالية .
عادت الطيور كعادتها إلى أكنانها عند المساء .. فكان المشهد مؤثـراً جـداً , عندما فوجئت بالدار غير الدار , والأرض غير الأرض , والأهل غـير الأهـل , وراحت تدور حول نفسها في سماء المكان , في حركـة حلزونيَّـة , تعـاين مسرح الجريمة وكأنها تريد أن تفتح تحقيقاً في الأمـر , بحثـاً عـن البيـت والمأوى ومنقلب الرأس , في مشـهد مأسوي يهـزُّ المشاعر ، ثم ما لبثـت أن غادرت المكان ، وهجرت الحديقة إلى الأبـد .
واختفت مراجيح الجميزة من حياة الأطفال بصورة نهائيَّة .. وأصبحت ملاعـب اللهو , ومجالس الأنس العائلية تحت ظلِّها الظليل عند الأصيل , أثراً بعد عين , حتى غراس الورد وشتائل الزهر , ذوت وذبلت حزناً على فراقـها .. وأحسَّ ( عبود ) بحجم الفاجعة , وشعر بالندم الشديد , ولكن بعد فوات الأوان .
وسط هذه الأجواء المغبرَّة جلس ( عبود ) قرب الجذع المقصوص .. المتخندق في الأرض .. المتشبث بالجذور , وراح يعنِّف نفسه , ويقرِّع فأسه , ويفكـر بما اقترفته يداه , وكيف يكفِّر عن ذنبه , وإذ بصوت قادم من الشجرة يأتيـه مخاطباً :
ــ ( السلام عليـك .. ماذا فعلـت لك يا عبـودة ..؟ حتى قصمت ظهري , وقصفت عمري , في عيد ميلادي المائة .. كنت تضربني , فأرد لـك الضربـة عطراً وعبقاً زكيَّاً .. ماذا اقترفت في حقك يا عبودة , حتى حكمت عليَّ بالموت ..؟ مئة عام لم أبخل فيها عليكم بثمر .. ماذا جنيت حتى قطعتني وحطمتني .؟ وأنت الذي تعلَّمت الحبوَ تحت ظلِّي .. هل هذا هو جزاء الإحسان يا عبودة ؟ )
فأمسك ( عبود ) بصدغيه , وصاح بها مزمجراً كمن أصابه مسٌّ من جنون :
ــ كـفى .. كـفى .. كـفى
ثم نهض فوراً , وتوجَّه إلى زوجته ( مريم ) في الداخل , فوجدها متكورة على نفسها في قوقعة من الحزن الشديد , وعيناها مخضَّلتان بالدمع :
ــ أين صورة أبي وجدِّي تحت الجميزة ؟
ــ ...........
فلم ترد عليه زوجته , ولاذت بالصمت المطبق , فسألها ثانية :
ــ أما سمعتِ يا امرأة.. أين الصورة ؟
فالتفتت إليه بوجه واجد متجهم , وقالت له بلهجة المغاضب المعاتب :
ــ ماذا تريد منها بعد الذي فعلته بها يا عبد ؟.. هل تريد أن تمزق صورتها
بعد أن حطَّمتها ؟!.. ها تريد أن تمحي البقية الباقية من ذكراها ؟!.. ماذا تريد
يا عبد ؟!
فأجابها بصوت تخنقه العبرات :
ــ أريد أن أكبِّرها , وأبروزها , وأعلِّقها في صدر البيت .. لعـلِّي ........
وأمسك عن الكلام , وغصَّ حلقه بالكلمات .. فأعقبته معلِّقـة :
ــ الآن .. الآن يا عبودة ؟
ــ حسبك يا مريم .. قلت لك هاتِ الصورة .
عندها نهضت الزوجة متثاقلة إلى إحدى الخزائن الجدارية القديمة وهي تكفكف
دموعها , وما هي إلا لحظات حتى استدارت نحوه عائـدة إليـه , وفي يدهـا مظروف قديم أصفر اللون , ودفعت به إليه بصمت .
تلقَّف ( عبود ) المظروف من يدها , واخرج منه الصورة في الحال , ونظـر إليها , وإذ به لم يجد فيها سوى صورة واحدة فقط , هي صورة ( الفأس ) .