يوم سقطت مدينة اللد.. * فوزالدين البسومي الدستور
من ذكريات صاحبنا عن سنوات النكبة الاولى قبل ثلاثة وستين عاما.. انه في العاشر من تموز 1948 غادر منزله في شارع مدرسة البنات في مدينة الرملة برفقة صديق عمره خليل الوزير وكان الهدف هذه المرة السهول الممتدة امام مدينة اللد وذلك لاصطياد العصافير الجميلة التي كانت تتواجد في حقول وسهول اللد المنتشرة.. وما ان دخلا السهل الطويل لنصب الفخاخ لاصطياد العصافير حتى فاجأهما صوت من بعيد يهتف بهما ان يتوقفا فأرخى صاحبنا سمعه للصوت الذي اخذ يحذره ويعلو .. وفهم صاحبنا من الصوت انه يحذره مما يفعل.. لان المدينة تسقط الآن في ايدي العصابات الصهيونية وان الامر جد خطير وانه لا بد من وجود مهرب من المكان والا كان الموت هو المصير المحتوم.. فلما فكر في الامر عرض صاحبنا امر ما هو حاصل على صديقه خليل الوزير .. فاقترح خليل ان يستفسرا عن الامر.. وهكذا حمل صاحبنا نفسه وسار مع صديقه في طريقهما لدخول اقرب منزل يصادفانه.. وهكذا كان.. فما ان وجدا اول بيت حتى طرق صاحبنا باب البيت طرقة خفيفة ثم دخلا فاذا بهما داخل رواق طويل يفضي الى صالون كبير يتجمع به جمع من الناس بعضهم نساء وبعضهم شيوخ وبعضهم شباب ثم اطفال، فقدم صاحبنا نفسه بانه قادم من الرملة وانه لم يكن يعرف ان اللد قد سقطت وانه دخل البيت للاحتماء فيه مع الموجودين.. فسأل عن المنزل وسكانه فقيل له ان المنزل تملكه عائلة آل الصالحي المعروفة في مدينة اللد، وما هي الا لحظات حتى قرع باب البيت فدخل احدهم وكان ضخم الجثة فقيل لصاحبنا ان القادم هو مصطفى الكرزون احد الجيران في المنطقة.. وما ان دخل الرجل الضخم حتى صاح بالموجودين.. لماذا لم تذهبوا الى مكان اكثر امانا طالما ان اليهود قد دخلوا المدينة؟ فاقترح عليهم الرجل فورا الذهاب الى مسجد اللد الكبير للاحتماء فيه.. فسيكون وجودهم فيه اكثر امانا.. وفورا قرر من سمع النداء الاستجابة فاستعدوا للمغادرة، وهكذا ذهب الجميع في طريقهم الى المسجد الذي لم يكن يبعد كثيرا، وبالفعل دخل الجميع المسجد للاحتماء فيه فهو مسجد كبير وكانت تتواجد فيه الكثير من عائلات مدينة اللد الذين فكروا في مكان اكثر امانا من البيوت... كان الصمت يخيم على الموجودين الى ان علا صوت ضجة داخل المسجد حين اقتحم المسجد احد جنود العصابات الصهيونية وهو يحمل رشاشا وجهه الى الموجودين وهو يقول لهم بصوت مرتفع وبلغة عربية: ارفعوا ايديكم الى فوق، امتثل البعض من شدة الخوف للامر بينما امتنع اخرون عن تلبية النداء فما كان من الجندي الصهيوني الا ان صوب رشاشه نحو الموجودين واخذ يطلق النار كيفما اتفق .. حدث هذا خلال دقائق بينما لاذ صاحبنا وصاحبه خليل الوزير بأحد اعمدة المسجد فاحتميا به.. ولحظتها ارتفع الصراخ.. فقتل من قتل وجرح من جرح.. فكانت مذبحة قيل يومها ان من قتل فيها كانوا اكثر من خمسين شخصا، كان من بينهم المرحوم مصطفى الكرزون ومجموعة من ابناء عائلة الصالحي المعروفة في مدينة اللد.. ومع الليل تسلل صاحبنا وصاحبه خليل الوزير وعادا الى منزل آل الصالحي برفقة صاحب المنزل حيث مكثا فيه الى عصر ذلك اليوم حتى اذا ما عاد صاحبنا وصاحبه الى الرملة كانت الرملة قد سقطت وكان ذلك اليوم هو الثاني عشر من تموز 1948 وغادر صاحبنا الرملة بعد ذلك بأيام ليجد نفسه على مشارف قرية القباب في الطريق الى رام الله.. وهو لا يعرف شيئا عن صاحبه خليل الوزير الذي لم يره منذ ذلك الحين الا بعد ثلاثين عاما في عمان.. يوم جاء خليل الوزير الى عمان برفقة ياسر عرفات للاقامة فيها.. وكلما التقى صاحبنا بصاحبه خليل الوزير تكون مجزرة مسجد الكبير هو محور الحديث فلا يملك صاحبنا الا ان يبكي على شهداء مسجد اللد الكبير الذين قضوا برصاص العصابات الصهيونية صبيحة العاشر من تموز 1948.