ذكرى وعد بلفور المشؤم
يصادف يوم الجمعة الموافق 2/11/2012 الذكري الخامسة و التسعون على صدور ما يسمي بوعد بلفور الآثم من قبل حكومة بريطانيا إلى اللورد روتشيلد، الذي تم بموجبه التعهد بإقامة وطن قومي لليهود بفلسطين . لم يصدر الوعد جزافاً أو بمحض الصدفة، بل كان نتيجة مؤامرة شاركت فيها دول أوروبية أخرى كفرنسا وإيطاليا وأمريكا . ففرنسا مثلاً كانت أول من أصدر بيان تأييد لهذه المبادرة عبر وزير خارجيتها ' ستيفان ' في بيان مشترك مع ممثل الجمعيات الصهيونية ' سكولوف ' فحواه التضامن والتنسيق المشترك بين حكومتي بريطانيا وفرنسا فيما يتعلق بتوطين اليهود بفلسطين . لا شك أن دولتي الاستعمار السابقتي الذكر والسيئتي السمعة والصيت لم يخفيا المؤامرة، فأقوالهم خير دليل عليها، فبعد دخول اللورد 'اللنبي' على رأس جيشه القدس في أواخر عام 1917 قال كلمته المشهورة ' اليوم انتهت الحروب الصليبية'، وبعد ثلاث سنوات دخل الجنرال الفرنسي' غورو' دمشق عام 1920و وضع قدمه على قبر 'صلاح الدين الأيوبي' قائلاً : ' هانحن قد عدنا ثانية يا صلاح الدين '... المواقف السابقة تعبر عن قمة الشماتة و الحقد والضغينة على بطل معركة حطين وموحد المسلمين و داحر الصليبيين أجداد هؤلاء الاستعماريين الجدد قبل حوالي 8 قرون وكأن أحفاد الصليبيين الجدد ظلوا ينتظرن اللحظة التي سيعودون فيها إلى بلاد الشام ومن ضمنها فلسطين على أحر من الجمر لرد اعتبارهم و كرامتهم التي مرغها صلاح الدين في الوحل و الطين، وتوالت المؤامرة على فلسطين، ففي مؤتمر سان ريمو 1920منح الحلفاء بريطانيا حق الانتداب على فلسطين لتبدأ بتنفيذ الوعد، وفي عام 1922 أصدر الكونغرس الأمريكي قراراً أيد فيه وعد بلفور و إقامة وطن قومي لليهود بفلسطين كما أيدت ' عصبة الأمم المتحدة ' هذا الانتداب في 24/7 من العام نفسه و دخل مرحلة التطبيق والتنفيذ الفعلي في 29 /9/1923 ولقد ساهمت الأمم المتحدة في المؤامرة حيث أقرت في 29 /11 /1947 مشروعاً يدعو لإقامة دولة يهودية بفلسطين . إذن المؤامرة محبوكة ومحكمة وواضحة من قبل دول الاستكبار العالمي آنذاك . وفي هذا السياق لابد من تحليل الدوافع التي أدت ببريطانيا لإصدار هذا الوعد وهي عديدة منها :
1- رغبة بريطانيا في تحقيق ما تعتقد أنه من تعاليم المسيح ولأن النزعة الصهيومسيحية بدأت بالتنامي آنذاك والتي أدت إلى بروز فكرة أن عودة اليهود لأرض فلسطين تعجل من عودة المسيح عليه السلام، الأمر الذي سيؤدي إلى دخول اليهود في المسيحية ثم ينتهي العالم، إذن الاعتقاد البريطاني بمساعدة اليهود باحتلال فلسطين يندرج تحت إطار التعاليم الدينية .
2- التنافس والتسابق المحموم بين دول الامبريالية العالمية على تحقيق مصالحهم في المنطقة ففرنسا مثلاً عرفت بعلاقاتها المميزة مع مسيحيي فلسطين الكاثوليك، و روسيا مع الأرثوذكس بينما بريطانيا لم يكن لديها مثلهم ، فوجدت ضالتها في اليهود لتتحالف معهم ليشكلوا ركيزة لها تعتمد عليهم في تحقيق مخططاتها .
3- تتميز فلسطين بموقع هام جداً بالنسبة للعالم حيث أنها ملتقى قارات ثلاث .
4- سعي ألمانيا وروسيا وفرنسا إلى إيجاد موطئ قدم لهم في المنطقة العربية لتقوية نفوذهم عبر مد خط سكة حديد من برلين إلى بغداد أو الاستيلاء على مضيق البسفور أو الاستحواذ على كل بلاد الشام ... الأسباب السابقة مجتمعة جعلت بريطانيا تفكر في بسط نفوذها على فلسطين لتطمئن على مصالحها ولكي لا تكون فلسطين خنجراً في خاصرتها وبالتالي يمكن لبريطانيا ضمان مصالحها .
5- حاجة بريطانيا إلى دعم يهود أمريكا لها في الحرب العالمية الأولى لعلمها جيداً أنهم يشكلون لوبي ضاغط ومؤثر على الحكومة الأمريكية وكان لها ذلك حيث ضغط هؤلاء اليهود على حكومة أمريكا لدخول الحرب وبالفعل تم ذلك عام 1917.
6- أرادت بريطانيا كسب تأييد اليهود الروس لها ولحلفائها في الحرب ومنع انخراطهم في الحزب الشيوعي الروسي الذي كان على النقيض مع الحلفاء وأجبر الدولة الروسية على الانسحاب من الحرب .
7- تحكم اليهود بالرأسمال العالمي والبنوك الربوية وقيامهم بدعم الحلفاء أثناء الحرب .
8- ابتكار 'وايزمان' - الذي أصبح فيما بعد أول رئيس وزراء لدولة إسرائيل – لمادة الجلسرين التي تساهم في صناعة المتفجرات واشتراطه على بريطانيا مقابل منحها هذه المادة أن تعلن بريطانيا الوعد بتوطين اليهود بفلسطين .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا بشدة هل يحق لبريطانيا التصرف بأرض فلسطين كما تشاء ؟ لا يحق لبريطانيا التصرف بأرض لم تكن آنذاك من ضمن ممتلكاتها حيث كانت فلسطين تتبع دولة الخلافة العثمانية وحتى الأخيرة ليس لديها حق التصرف بفلسطين لأنها أرض وقف إسلامي والمالك الوحيد لفلسطين وصاحب الحق في التصرف بها هو الشعب الفلسطيني فقط ومن خلفه عمقه العربي والإسلامي، فبريطانيا أعطت ما لا تملك لمن لا يستحق، وإن السلوك البريطاني يناقض التصريحات التي تفوه بها مسؤوليها، ففي بيان رسمي عام 1918 أكدت بريطانيا أن حكم البلاد يجب أن يتم حسب مشيئة ورغبة سكانها، ولن تتحول بريطانيا عن هذه السياسة، وهنا نتساءل هل صدقت بريطانيا في بيانها المذكور ؟وهل تماشت مع رغبة سكان فلسطين ؟ هل استطلعت آراء الفلسطينيين في توطين اليهود على أرضهم ؟ هل أعطى الفلسطينيون الموافقة على السلوك البريطاني المعادي لهم ؟ أسئلة كثيرة تتبادر إلى الأذهان...
كما أن الوعد يتناقض مع إعلان الحلفاء ومنهم بريطانيا الذي أكدوا فيه على مبدأ تقرير المصير فهل أوفت بريطانيا وحلفائها بهذا المبدأ ؟ ما حدث يثبت العكس . لقد زرع وعد بلفور الكيان الصهيوني على أرض فلسطين ليجثم على قلب الأمتين العربية والإسلامية ولكن نقول أن هذا الوعد ليس قدراً محتوماً على أهل فلسطين وبالتالي على الفلسطينيين ألا ييأسوا وأن يعملوا بكامل قواهم أحزاباً وحركات وفصائل وتنظيمات على إعداد برنامج وطني موحد يهدف إلى طرد المحتل واسترداد الأرض وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف كما يجب التيقن بأن عالم اليوم لا يعترف أبداً بالضعفاء أو المنقسمين على أنفسهم، بل إنه لا يحترم إلا الأقوياء الذين يأخذون بكافة أسباب القوة ويفرضون أنفسهم بقوة في المعادلة الدولية لينتزعوا حقوقهم لأن صيرورة التاريخ تقول أن الحقوق لا تمنح ولكنها تنتزع.