نافذة و" قمر" في سجن نابلس / د.عدنان جابر*
التاريخ: 2009-12-12 07:50:43
مركز الأسرى للدراسات
د . عدنان جابر
----------------------------------
1- نافذة الأمل ـ والخيبة
.. في السجن، النافذة أمل حتى وإن كانت بحجم الكف.
في ليلة من ليالي شتاء عام 1975 كنتُ في سجن نابلس. في الغرفة بدأت الورشة الليلية للأسرى: أحاديث، ألعاب، نكات، قراءة، شطرنج، المشي في المساحة الضيقة، حكايات، ذكريات... أي شيء يصلهم بالعالم، أي خيط يربطهم بالحياة ويقصيهم عن القهر والجفاف واللاشيء.
في الغرفة نافذتان، الأولى في أعلى الجدار الخلفي، نافذة مستطيلة ضيقة مغطاة بالأسلاك والقضبان لم نكن نستطيع رؤية شي منها، فقط كنا نسمع أصواتاً: نباح كلاب بوليسية، وأصوات جنود، وجلبة صادرة عن إنزال أشخاص تم اعتقالهم حديثاً. كنتُ أحياناً أتسلى بعد الكلاب من خلال أصواتها، وأتوقف عن العد حين تَصدرُ أصواتٌ أخرى.
النافذة الثانية كانت تريح أعيننا ونفوسنا. بخلاف سجون أخرى، في كل غرفة من غرف سجن نابلس نافذة طويلة وعريضة وواطئة ولها مصطبة، تطل على الممر الطويل أمام الغرف المتلاصقة، الممر الذي يؤدي عبر بوابة إلى باحة واسعة، وهذه تؤدي عبر بوابة أكبر إلى باحة أخرى، ثم يأتي السور الشاهق وعليه أبراج الحراسة.
..أبواب السجن كثيرة، والحرية لها باب واحد.
برزت رغبة الروح بفضاء أرحب. شاهدتها فارغة فذهبت إليها على عجل. فمن النادر أن تكون النافذة وحيدة من دون وجه ينظر من خلالها إلى حلم، إلى ذكرى يستحضرها ويتأملها، أو ينظر إلى قطعة السماء التي تعلو سور السجن.
سارعت إليها لأجلس على مصطبتها قبل أن يأتي زميل آخر، لآخذ حصتي من الخيال الطليق..
انجذبت إليه على الفور. كان فوق السور، رائعاً، ساحراً، مكتملاً في تمامه.
قلتُ لروحي: أهديكِ هذا البدر.
أجابت روحي: أُصمدْ. "عمر السجن ما تسكَّر على حدا"..
أضافت سخريتي: راح تطلع أكيد. إما على رجليك وإما على بطانية.. تِصْبَحْ على حرية!
كنتُ أتأمله وأسرح ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. أتملى صفحته مستمتعاً وألوذ بذكرياتي. أحدق إليه وأطيِّر أحلامي إلى خارج السجن.
غمَّستُ ضوء القمر بذكرياتي الغائرة وأطعمتُ روحي لقمة من هنا.. ولقمة من هناك.
.. ما أصعب إطعام الروح!
تأملته طويلاً. نصف ساعة. ساعة. لا أدري، فأنا سجين لا أحمل ساعة. ثم، أليست سخافة أن نتأمل القمر وننظر إلى ساعتنا؟!
تحدثتُ معه، أرسلتُ له قبلات كثيرة.. وفجأة انكسرتُ.
.. لم يكن قمراً!
حدقت إلى وجهه وإلى وجه الظلام، دققت في ما يجاوره، واكتشفت والفرحة تتبخر من قلبي أنه ليس هو.. لم يكن قمراً بل كشاف كهرباء!
إنه "البروجيكتور" الذي يرصد الأشياء والحركات، يكشف السجين إن حاول الهرب ويضيء العتمة إن استغل السجناء "ليلةً ما فيها قمر".
ألمُ يهصر هصراً ولج إلى روح روحي. ساعة وأنا أتأمل ما ظننته قمراً ليظهر بعهدها أنه ليس قمراً، بل زجاجٌ وحديدٌ ونورٌ ضد النور!
شعرتُ أنني أُهنت. أنني ضحية زيف. ولا شيء يمكن أن يُعوِّض هذه الخيبة. لقد سخر الكشاف من ذكرياتي وأحلامي. حزنتُ على روحي كثيراً. لقد أطعمتها هواء!
منذ ذلك اليوم وأنا أبحث عنه. وإن رأيته أحدق إليه ملياً. أدقق في ملامحه وفي ما يجاوره. أتأكد من هويته القمرية حتى لا يخذلني ويصدمني.
2- نافذة العزاء
في حي الفاكهاني في بيروت عام 1979، أقمتُ فترة في "بيت نقاهة" بعد عملية جراحية لقدمي الممتلئة بالشظايا من الرصاص المتفجر "دمدم" الذي أطلقه عليَّ الجنود الإسرائيليون أمام الحرم الإبراهيمي في الخليل في 5 حزيران 1969 عندما كان عمري 17 عاماً، ولا أزال أحمل هذه الشظايا حتى الآن وعمري 57 عاماً، أي منذ 40 سنة!
في "بيت النقاهة" اخترتُ سريراً قرب النافذة المطلة على الشارع. لم يكن في النقاهة سوى أنا وصديقي الأعز محمد سليمان قطامش من البيرة الذي كان عاجزاً عن الحركة بسبب التعذيب في السجون الإسرائيلية، وكان لا يتمكن من النوم بسبب تلف الأعصاب لديه.
طلب مني صديقي محمد أن يكون سريري مجاوراً لسريره، فقد كان هناك صفَّاً من الأسرَّة كان سريره الأول وسريري الأخير، ونبَّهني قائلاً أنه في العام الماضي قرب هذه النافذة المجاورة لسريري سقطت قذيفة.
قلت له: لستَ بعيداً عني، سآتي عندك وأجلس بجانبك دائماً، لكن يا صديقي أنا لا أعيش من دون نافذة!
صديقي عاد إلى فلسطين بعد أن أصبح علاجه ميئوسا منه ورحل عن دنيانا بعد بضع سنوات .
لماذا يرحل عنا ويفارقنا أعز أحبابنا وأعز أصدقائنا؟!
عثرت على "نافذة العزاء". ليس "العزاء" و"الأجر" المرتبط بالموت الذي أصبح سهلا وشائعاً، بل العزاء "السلوى" و"التعويض"، التعويض عما لحق بي من مكابدة بسبب "قمر" سجن نابلس. هذه النافذة لم تكن "واقعية" بل جاءتني من الفن.
في مصح "اوتوبين" قرب بوخارست، أثناء فترة علاج قضيتها هناك، أعطاني الرومان غرفة ولا أجمل، تناسب سجيناً خرج للتو من سجن بئر السبع الصحراوي الذي كنت أتلهف فيه لرؤية عرق أخضر: غرفة بسريرين، مذياع، تلفاز، هاتف، حمام مع "بانيو"، أرضية الغرفة "موكيت" خمري اللون، والأهم من كل ذلك، نافذة كبيرة تفتح على غابة!
من التلفاز، أثناء مشاهدتي لفيلم إيطالي، جاءتني "نافذة العزاء"، حنونة، دافئة، مصحوبة بقمر.. قمر حقيقي!
الطفل "جوكامينو"، لا يتجاوز عمره 10 سنوات، خصلات شعره الأشقر تغطي وجهه الجميل المدور، كان يعمل حمَّالاً، يجر عربة. في الشارع سقط مغشياً عليه بسبب الإرهاق والجوع. وجد جوكامينو نفسه في مشفى، وملائكة الرحمة، الراهبات، يعتنين به.
في الليل، من نافذة غرفته، وكان وحيداً، رأى جوكامينو القمر، كان بدراً وساحراً. دخل ضوء القمر من النافذة إلى سرير جوكامينو وإلى وجه جوكامينو. قال له جوكامينو:
• شكراً أيها القمر لأنك زرت جوكامينو.
كان محزنا بالنسبة لجوكامينو أن يأتي القمر لزيارته قبل أن يأتي والداه، المشغولان عنه، فأبوه سكير، وأمه تعمل في ملهى.
من ذاكرتي، لم تنمحِ نافذة سجن نابلس ولم ينمحِ "القمر"، لكن نافذة جوكامينو مسحت على حزني ودحر قمره الحقيقي "قمري" الزائف إلى منطقة بعيدة.
3- نافذةُ القَدَر
اختار مارسيل عدنان جابر في بلغاريا ـ صوفيا، الساعة الواحدة ظهراً، يوم السبت الموافق 26 تموز 2008، وهو في الرابعةِ والعشرين من العمر، أن يُتوِّج نجاحه في السنة الرابعة والأخيرة في الجامعة، بالقفز من النافذة من الطابق السادس. كان على وشك التخرج من الجامعة.. لكنه خرج من الحياة!
طرتُ من دمشق إلى صوفيا..
بعد الانتهاء من كل شيء، من التغسيل والتكفين والجنازة والصلاة والدفن وتلقي العزاء وفتح "بيت العزاء" الذي أقامه أصدقائي ومعارفي هناك من الفلسطينيين والعرب الذين وقفوا معي بنبل وشهامة، ذهبت هناك إلى الطابق السادس!
دخلت البيت، ذهبت إلى غرفته لأرى أشياءه وأرى تلك النافذة. أول ما لفت نظري شحاطته، كانت بلا قدميه، أمسكت بها وأخذت أقبلها وأنا أنتحب وأتفوه بعبارات شتى. رأيت على طاولته علبة سجائر فارغة وقداحة باردة. ثم.. ثم اقتربت من النافذة برهبة واضطراب، شجَّعت نفسي على الاقتراب، نافذة كبيرة بلا قضبان ولا شبك، لم تكن نافذة.. كانت شدقاً!
كانت طليقتي ديانا ـ أمه في المطبخ، المطبخ الذي كانت فيه عندما رفضتْ أن تعطيه نقوداً كي يشتري سجائر "حرصاًً على صحته" عندما غافلها وذهب إلى غرفته وطار من النافذة. اغتنمتُ وجودها في المطبخ وأخذتُ راحتي في بكاء مر.
.. منكِ أيتها النافذة طار ابني.. لينام في مترين من الأرض!
في صحنايا أعيش في قبو، لا خوفَ من "الموت قفزاً!"، وحتى إزاء ما يأتيني أحياناً من "أشياء غير مرغوب فيها" من نوافذ الجيران وشرفاتهم من الطوابق العليا فأنا أستقبل ولا أرسل!
ابني عمر، ابن الصف الأول، الذي يصنع من الورق "اختراعات" فاجأنا وأذهلنا بخصوص أخيه مارسيل الذي تعرَّف عليه أثناء زيارته لنا قبل وفاته بسنتين، قال لنا: علينا أن نخترع آلة الزمن وأن نعيد مارسيل إلينا ولا نجعله يسافر إلى بلغاريا حتى لا يموت!
من أجل عمر هذا، الذي يحتاج إلى أشياء كثيرة، ومن أجل أخته دالية ابنة الصف الرابع التي وُلدت من دون كف في يدها اليسرى ولديها موهبة الرسم ولا تحتاج موهبتها إلى أكثر من يد واحدة، من أجل هذين الصغيرين لن أُغلق نافذة الأمل، وسوف أتفاهم مع ما تأتي به كل النوافذ
.
* كاتب فلسطيني من مدينة الخليل
أسير سابق ومبعد، مقيم في دمشق.