"مريم" أم الشهداء الخمسة رمز الرضا والصمود
الحاجة مريم الغبن
- أسماء أبوشال
الجميع يعرف حكاية الخنساء، المرأة القوية التي فقدت أبناءها الأربعة بموقعة القادسية في عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضيت بقضاء الله واحتسبت، ودعت الله سبحانه وتعالى وقالت: "الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته".
ولكن ما لا يعرفه كثيرون أنه تولد كل يوم خنساء جديدة في فلسطين، تقدم نموذجاً رائعاً للصبر والصمود، وتقديم كل غال ونفيس من مال وأبناء وبنات في سبيل الله والوطن، وها هي الحاجة "مريم غبن-أم غسان" إحدى خنساوات فلسطين، تجسد هذا الدور جيداً وبجدارة، بعد أن قدمت لوطنها خمسة من أبنائها دفعة واحدة.
وتحكي أم غسان لبرنامج "حكايا الأبرياء" في قناة "اقرأ " قصتها وهي تنظر إلى ذلك البستان الأخضر الذي زرعته هي وأولادها منذ كانوا صغاراً، فيا لها من أيام مرت سريعة، كانت أياما جميلة، رغم ما حملته من تعب وسهر الليالي من أجل تربية هؤلاء الصغار، وتوفير لقمة العيش الكريمة لهم، دون الحاجة إلى الآخرين، وما أن كبروا واشتد عودهم، حتى رحلوا مبكراً قبل أن تتذوق والدتهم طعم الراحة والسكينة.
اعتادت "الست مريم" على صلاة الصبح جماعة هي وزوجها وأولادها، وفي ذلك اليوم رن هاتف ابنها محمد ليبلغه عمه بأن أحد الأقارب انتقل إلى رحمة الله، وطلب من "أم غسان" أن ينزل أبناؤها إلى المزرعة لالتقاط توت الفراولة لعدم قدرته على مواصلة العمل، وبالفعل راح أبناء أم غسان إلى المزرعة لقطف ثمار التوت، وذهبت السيدة مريم وزوجها لقضاء واجب العزاء، ولم تعلم أم غسان ما ينتظرها في هذا اليوم العصيب.
وبنظرات مليئة بالألم والحسرة، قالت الست مريم: "كنت أحاول قدر المستطاع أن أوفر الحياة الكريمة لأطفالي، كنت أبيع التوت صباحاً، وأقوم بكل أعمال المنزل ليلاً، ولا أنام في اليوم سوى ساعتين فقط، لأوفر لهم لقمة العيش، حتى لا يمدوا أيديهم إلى الجيران، ولا يفكر أحد أبنائي بالسرقة أو غيره، والله أنعم علي بأطفال أبرار، كل منهم يحاول أن يدللني طوال الوقت بكوب من الشاي أو الماء البارد، قضيت أسعد أيامي مع أطفالي الشهداء كانوا يقرأون القرآن في الليل ويذهبون صباحاً إلى المدرسة، وبعد العودة يخلعون ملابسهم ويذهبون للمزرعة لمواصلة العمل اليومي الدؤوب، كانوا أخوة متحابين وخلوقين أحبوا بعضهم في الدنيا واحتضنتهم تربة واحدة في الآخرة".
لقد كان منزل الحاجة مريم يعج بصراخ ولعب أبنائها، كانت عائلة مثابرة، الكل فيها يعمل من أجل توفير لقمة العيش، كانوا يقومون بزراعة التوت الأرضي، وكل أرضهم الخضراء زرعوها بأيديهم الفتية، وحولوها من أرض جرداء إلى بستان جميل، ومزرعة تتغنى بنشاط أولئك الصبية، لكنهم رحلوا قبل أن يجنوا ثمار ما زرعت أياديهم.
وفي أثناء تواجد أم غسان عند الأقارب سمعت انفجارا كبيرا بالرغم من بعد المسافة، لم تهتم بالأمر، ولكنها خرجت تسأل ماذا يحدث، وما هذا الضجيج؟ وفوجئت أن الناس تحاول طمأنتها، فأخذت ترتجف ويخفق قلبها بسرعة، ووضعت يدها على رأسها وقالت: "جبري عليك يا رب.. عوضي عليك يارب"، وأثناء الزحام كانت سيارات الاسعاف تملأ المكان والأشلاء والدماء هنا وهناك، فأخذت تبحث عن فلذات أكبادها.
وفي وسط هذه الأجواء، ومع ضجيج وبكاء النساء، علمت "أم غسان" أن الله اختار أبناءها، لم تجد سوى الصلاة لتهوّن عليها قامت لتصلي الضحى وتحمد الله على ما أنعم عليها به، وبعد الانتهاء من الصلاة وجدت النساء يصطففن خلفها يهمهمن، ماذا تفعل هذه المرأة ؟ هل هي مجنونة؟ أجابت أم مريم: "بعد الصلاة: صليت 11 ركعة لله، وحمدت الله وشكرته".
تقول الست مريم مبتسمة وبرضا تام: في الصلاة دعوت الله أن يصبرني عندما أرى أولادي ملفوفين في شرائطهم1، كما صبرني عند الصدمة الأولى، فأنا دائماً أبكي على الشهداء وأنا لا أعرفهم، فكيف سيكون حالي عندما أستقبل أولادي الخمسة، لذا كل ما أردته من الله في هذه اللحظة هو الثبات.
خرجت "أم غسان" تبحث عن أبنائها وسط جثث وأشلاء الشهداء، وخوفاً عليها من مشهد تشييع أبنائها أخبروها بأنه تم دفنهم بعيداً في الصحراء حتى لا تنهار، لكنها وبمنتهي العزم والصلابة أدركت مقصدهم، وقالت لو فعلتم ذلك لخرجت ليلاً أنبش الأرض وأبحث عنهم، مؤكدة لهم أنها صابرة ومحتسبة أبناءها عند الله وستظل صامدة، ثم طلبت أن يخرج أبناؤها الخمسة من البيت لتودعهم في صمت قبل أن يذهبوا إلى رحمة الله.
وبالفعل أحضر الشباب أبناءها الشهداء محملين على الأكتاف حينها وقفت الحاجة مريم تدعو الله سبحانه وتعالى أن يثبتها لتصون الأمانة، ولم تجد إلا أن تقول: "إنا لله وإنا إليه لراجعون" والجميع حولها يترقب وينظر إلى هذه الأم الشجاعة.
اقتربت شيئا فشيئا من أبنائها لتنظر إليهم واحداً تلو الآخر يقولون لها هذا فلان فترد قائلة: "الملقى في الجنة، إلى أن رأت وجه ابنها "بسام" فطلبت منهم أن ينزلوه كي تقبله، وتذكرته عندما استيقظت في الصباح في نفس يوم استشهاده ووجدته يقرأ القرآن الكريم ويحفظ بعد آياته بعد أن صلى الصبح، فدعت له، وقالت له: "الله يهديك يا ابني".
وكان يوم الثلاثاء الرابع من كانون الثاني 2005 أسوأ يوم في حياة الحاجة مريم، ذلك اليوم الذي لم تنس تفاصيله الدقيقة المؤلمة، فقد رحل في ذلك اليوم أغلى 5 أشخاص في حياتها إثر سقوط قذائف المدفعية الإسرائيلية على رؤوسهم، وهم في بستانهم الأخضر يحفرون الأرض ويزرعون الثمر.
رحمهم الله وتقبلهم مع الشهداء والصالحين والهم امهم وذويهم الصبر والسلوان