بسم الله الرحمن الرحيم
نساء عالمات من الأندلس
بقلم:
سلمى الكزبري
قد لا يعرف كثيرون أن المرأة العربية المسلمة في الأندلس أسهمت في انتشار العلم وتألق الحضارة إبان العصر الذهبي للحكم الأموي فيها بفضل نبوغها في الفقه والبلاغة والتعليم.
إن ما شاع عن دور المرأة في ذلك المجتمع إبان تلك الحقبة الطويلة من الزمن، وما ذكرته كتب التاريخ قد ركز على موهبتها الشعرية، وعن ذكائها وظرفها بصورة خاصة. واليوم أود التحدث عن النساء العالمات اللواتي أتت على ذكرهن وآثرهن الحميد في الأندلس أمهات كتب الأدب والتاريخ العربية، وبعض الكتب الصادرة في إسبانيا في هذا القرن العشرين بأقلام باحثين ومؤرخين مرموقين.
جميع المصادر التي لدينا تؤكد أنه كان للمرأة العربية الأندلسية دور مميز في ازدهار الثقافة وتطور المجتمع، ولا ريب في أن ظهور مواهب تلك النساء، من شاعرات ومدرسات وعالمات يعود لسببين رئيسيين أولهما البيئة الأندلسية المتطورة والسمحة التي وجدن فيها، وثانيهما الاستقرار السياسي والنهضة التي شملت حواضر الأندلس الكبيرة كقرطبة وإشبيلية وبلنسية وغرناطة وسرقسطة ورندة وحتى مختلف أرجاء الأندلس منذ القرن الثامن الميلادي، وحتى القرن الثالث عشر منه. تلك البحبوحة العامة في العيش، وذلك الاستقرار الأمني الطويل المدى، إلى جانب التطور الاجتماعي المذهل الذي حافظ على الديانة الإسلامية متمسكاً بجوهرها من غير أي تزمت وأي غلو كان السبب الذي حفز الناس إلى الأخذ بالعلم، والاهتمام بنشره، والعناية الفائقة بالفنون على أنواعها، وانشاء المدارس والمكتبات العامة والخاصة واستقطاب العلماء والشعراء والفنانين من الشرق، أي من البلاد العربية كالحجاز والعراق وبلاد الشام. والدليل على ما أقول بما يخص النساء العالمات هو أن علية القوم في الأندلس استقدموا من الشرق بعض النساء العالمات لكي يدرسن أبناءهم وبناتهم اللغة والفقه والأدب العروض.
من تلك العالمات ذكرت لنا كتب التاريخ العربي الأندلسي (وهي كثيرة ومعروفة ومتوافرة كنفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب والأغاني للأصفهاني، والعقد الفريد لأحمد بن محمد بن عبدربه وغيرها كثير) اسم عالمة مرموقة حجازية المنبت اسمها "عابدة المدينة" (نسبة إلى المدينة المنورة) التي درست الفقه والبلاغة في قرطبة، وعاشت فيها قادمة من الحجاز، وقد اشتهرت بالفصاحة والفقه إذ كانت تروي عن أنس بن مالك الصحابي، كانت عابدة من الجواري المدنيات اللواتي كان الأمراء والوجهاء يحضرونهن من الحجاز بعد تأدية فريضة الحج، ولقد حظين في الأندلس بمكانة سامية حسدتهن عليها الحرائر لتفوقهن في العلم والفقه والحديث والأدب. ولقد تزوج "عابدة" بشر بن حبيب الأندلسي وزرق منها كل أولاده. أما الإماء اللواتي كن ينجبن للامراء ولداً فكن يصبحن زوجات لهم مكرمات.
كما اشتهرت في قرطبة العالمة "إشراق" التي دُعيت إلى الأندلس وأقامت فيها وعلمت أبناءها وبناتها محفوفة بكل تكريم، و"إشراق" عرفت برواية الشعر وتفسيره فقال عنها المؤرخ سليمان بن نجاح: "أخذت عنها علم العروض، وقرأت عليها "النوادر" لأبي علي القالي، و"الكامل" للمبرد".
إن من واجب الباحث في هذا الموضوع أن يشير إلى واقع تاريخي مهم هو أن الفاتحين الأول للأندلس الذين استوطنوا فيها من عرب وبرابرة كانوا رجالاً فقط، بلا نساء في بداية الفتح وانهم اختلطوا بالعرق الإسباني بسرعة لأن الإسلام يجيز للرجل تعدد الزوجات، وعندما استقر الحكم العربي في الأندلس أخذ الأمراء نساءً عربيات، وإماً من الشرق حباً منهم بتقليد ما كانت تفاخر به قصور الخلفاء العباسيين في بغداد، حيث كان للإماء فيها دور كبير في تنشيط الفنون وانتشار الأدب والشعر . يقول الأديب والمؤرخ الأستاذ أحمد أمين في كتابه "ظهر الإسلام" : "إن الخطة التي وضعها حكام الأندلس الأمويون كانت تهدف إلى نقل ما كانت تفاخر به قصور الخلفاء في الشرق، ولا سيما العباسيين حيث كان للإماء فيها دور كبير في ازدهار الفنون والعلوم" فهنالك في بغداد، كان يُشترط في الإماء اللواتي يشترونهن التمكن من اللغة وإجادة العزف والغناء، وقول الشعر إلى جانب الجمال، ولكن الفارق كان كبيراً بين معاملة العباسيين للإماء اللواتي كن يتدربن في بغداد ثقافياً وفنياً خاصا، ويصبحن بعد ذلك محظيات أو وصيفات، أو زوجات للأمراء والنبلاء، وبين الإسبانيات اللواتي تزوجهن أمراء الأندلس ووجهاؤها فأسلمن وتعلمن اللغة العربية التي عمت شبه الجزيرة الأيبرية على مدى بضعة قرون، وأنجبن جيلاً عربياً أندلسياً مطعماً بالعرق الإسباني جمع بين حرارة الشرق وجاذبيته وجمال الغرب ورقته.
عندما نعود إلى الأجيال اللاحقة من النساء الأندلسيات اللواتي جئن خليطا لعرقين قرناً في إثر قرن، ذا صفات متميزة من الجمال الخُلقي والخلقي نقف على نبوغ عدد كبير من النساء فنذكر "لبنة" العالمة في اللغة وفي الرياضيات التي احتضنها قصر الحكم الثاني يوم كانت جامعة قرطبة في عهده أعظم جامعة عربية لتدريس الرياضيات والفلسفة والطب والفلك والكيمياء والفقه والأدب، واول جامعة علمية في القارة الأوربية كلها.
كما نبغت آنذاك الشاعرة القصصية "رضية" التي أطلق عليها معاصروها لقب: "الكوكب الساطع"، ولقد قامت برحلة إلى الشرق العربي بعد وفاة الحكم الثاني، ولقيت في عواصمه استقبالاً عظيماً وتكريماً بالغاً.
أما "عائشة بنت أحمد القرطبية" فلقد أحاطها الخليفة عبدالرحمن الثالث الملقب بالناصر بكل احترام واعترف بسمو مكانتها العلمية إذ كانت تملك مكتبة خاصة بها مؤلفة من أندر المخطوطات التي نقلت جزءاً كبيراً منها بخطها.
ومن اللواتي ذكرهن لنا التاريخ بالتمجيد "صفية بنت عبدالله" الكاتبة التي تفرغت لنقل المخطوطات، واشتهرت ببراعتها في جودة الخط وجماله، وفي الإنشاء.
وعندما انتقلت الخلافة من الحكم الثاني إلى ابنه هشام تسلمت أمانة السر في بلاطه امرأة تدعي "نظام" وهي التي كانت حسبما ذكرت لنا المصادر العربية والإسبانية، متفوقة في تدوين الوثائق السياسية والإدارية، بخط جميل، على أسس نهج علمي برعت به، فحافظت على مركزها المرموق في البلاط حيث أحيطت بما تستحق من تقدير وإكرام.
مدرسات نابغات
وإذا انتقلنا من العاصمة "قرطبة" إلى إشبيلية نتوقف عند مدرسات وعالمات باللغة والأدب،نابغات، أسهمن في نشر التعليم فنذكر منهم: "مريم بنت يعقوب الأنصاري" التي كانت تطوف على بيوت إشبيلية لتعليم بناتها وأبنائها الصرف والنحو والأدب في خلافة المهدي صاحب إشبيلية في القرن الحادي عشر.
إن أخبار أمثال هذه النساء العالمات في الأندلس الواردة في كتب التاريخ كثيرة جداً ومبعثرة لم يسبق أن ألقيت عليها الأضواء، كما نتمنى، لجمعها في دراسة حديثة تطلع عليها أجيالنا الصاعدة وتستفيد منها.
لقد ذكر "المقري" في "نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب" عدداً كبيراً من النساء اللواتي تفرغن للعلم والتعليم ونسخ المخطوطات وأكثر من ثلاثين شاعرة مجيدة، وذكر الأمير شكيب أرسلان في كتابه: "الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية "الدور المهم الذي قامت به المرأة في نشر الثقافة وتطوير المجتمع والسمو بالفن، ونشر المستعرب الدكتور "خوان فيرنيه Juan Vernet " أستاذ الللغة والأدب والتاريخ العربي في جامعة برشلونة كتاباً باللغة الإسبانية عنوانه: "المسلمون الإسبان" قبل ثلاثة عقود تقريباً، وكتاباً آخر لا يقل أهمية عنه العنوان: " بِمَ تدين الثقافة لعرب إسبانية" تُرجم إلى اللغة الفرنسية عام 1985. والدكتور فيرنيه عالم ومؤرخ وكاتب معاصر مرموق من منطقة كاتالونيا متفرغ لإلقاء الأضواء علي الحضارة العربية في ألأندلس منذ مطلع شبابه، ومرجع موثوق للبحث عنها في مؤلفاته المنشورة المتعددة.
ولا يختلف اثنان من الكتاب والباحثين العرب والغربيين على أن الفكر العربي قد وجد في الأندلس أرضاً خصبة، وبيئة مشجعة على النمو والازدهار، وأن المرأة فيها قد وجدت منطلقاً لمواهبها، وحافزاً على استكمال شخصيتها لأنها تتأثر كثيراً بالمحيط الذي تنشأ فيه وتعمل فترتقي فكرياُ وثقافياً وفنياً عندما يرتقي، كما تنعزل وتطمس مواهبها، وتلجم قدراتها، عندما يتخلف عن الركب العلمي والحضاري.