--------------------------------------------------------------------------------
قبلات الندى
" ابتسامة البرتقال الحزين "
(لازالت الأرض تدور ، وإذا غابت الشمس فلا بد أن تشرق من جديد … )
… كان يتقدم نحو بيت أبيه عابراً بيّارة البرتقال ، عبير البرتقال يملأ رئتيه ، يسيطر على كيانه نشوة فينسيه الحذر …
تقـدم بخطـوات تلتحم بالأرض ، قفـز من فـوق السـلسـلة الحجرية التي بناها أبوه وأمّه وأخته الكبرى ، كل هذه السلاسل هم الذين بنوها … من فوقها قفز فامتصت الأرض الصوت كأنما تتستر على وجوده ، أما الزهور فاستعذبت منه الألم …
كانت قدماه تقودانه إلى المكان ؛ فكأنما لم تبتعد عن هذه الأرض مذ أن كان طفلاً ، فهي لا زالت تحفظ كل حصاة فيها … كانتا تقودانه إلى مسجد القرية ؛ فهي في زاوية البيّارة الغربية ....
هناك … لم يجد إلا الجدار الغربي المتصدع وشجرة البرتقال التي غرسها الشيخ " عايد " وأمره بسقايتها … قد كبرت الشجرة مثله تماماً … صلى ركعتين … انتصب رافعاً رأسه ؛ كان غصن الشجرة يقف في طريقه كسياج ، انحنى ليمر من تحته ، فوجد أغصاناً أخرى تضرب وجهه ، فعلم أن لا مكان للانحناء ، فالتصق بظهره إلى الجدار وحاول الانسـلال بجسـده جاعـلاً الجـدار إلـى ظهـره والأغصـان إلى صدره فكانت الأغصان تجبره على الالتصاق بجدار المسجد أكثر كي يمر … .
بعض أوراق شجرة البرتقال مرت فوق خده ، فقبّلَتْهُ وإياها قطرةُ ندى … ابتسم بدهشة كيف للقطرة أن تقبل اثنين معاً في ذات اللحظة ؟! … اقشعر بدنه ،وانسابت فوق خده دمعةٌ مختلطةً بحبة الندى ، ثم اخضلت لحيته ، وانشدت أصابعه على بندقيته ، ضاقت حدقتا عينه … رفع رأسه نحو السماء ، كزَّ على أسنانه ؛ شريط أسود من الذكريات انساب عبر مخيلته ؛ تذكر كيف ثقبوا القمر ، وأطفأوا الشمس ، وسرقوا النجمات ، وأحرقوا جديلة أمه والظفائر … كانت النار تأكل كبده ؛ ولكن ناراً أخرى بدأت تستعر في رجله … نظر إليها ؛ عقرب سوداء كانت قد استغلت رفع رأسه نحو السماء فغرست سمها لاسعة رجله المتقدمة ؛ يصيح بملء حنجرته :
" حتى أنت يا ..." ؛ ويرفع بندقيته ليهوي بأخمصها على تلك العقرب – يمحقها محقاً – لكن يده تشنجت عندما اندفع صوت من أعماقه يناديه أن لا تفعل ؛ فإنها تبقى بنت هذه الأرض !! …
مع صرخته تنبهت لوجوده بعض الغربان ، فانطلقت مرعوبة مالئةً الدنيا نعيقاً … ما كادت الغربان تنطلق ، إلا وقد تدفقت زخّاتٌ من الرصاص المحموم صوبه ممزقة صدره والجدار …
كانت الرصاصات تتراكض فوق صدره عجلى مهرولة كهرولة ثمل ، تاركة آثاراً كآثار أقدام مرعوبة فرت عبر تربة حمراء موحلة ، لا تلوي على شيء خشية أن تدركها الليوث الضارية … ثم تخرج من ظهره فيتصدى لها الجدار .
يده كانت لا تزال مشدودة على بندقيته ؛ بيده الأخرى تشبث بغصن البرتقال خشية أن يسقط … بدأت قوته تنهار ، وقدماه تخونانه ، أخذ يترنح … غامت عيناه … سقط إلى الخلف ؛ فأسنده الجدار إلى صدره الحنون ، وانقطفت في يده برتقالة حال سقوطه عندما حاول التشبث بالشجرة ؛ فشد يده بها خشية ضياعها …
ومـع اشـتداد الألـم ازداد ضغطـه علـى البرتقالـة ؛ فكأنما كان يخشـى أن يموت فيأخذوها منه ثانية قبل أن يرها الشيخ "عايد" ؛ فهو لم يخن العهد وجاء – ولو بعد سنين – ليسقي الشجرة …
التصق بالجدار ؛ ثم انساب كدمعة ملؤها الكبرياء ، تاركاً أثراً من الدماء النازفة من ظهره على الجدار ، ليرسم رسماً ، كهيئة خنجر شامخ …
في الصباح كانت ريح المسك تختلط بعبير برتقالة ارتوت بدمه ، وكان قد تمدد بينها وبين الجدار وفي حضنه بندقية يحتضنها كأب حنون عاد لعانق طفلته المدللة وفي يمناه برتقالة لا زالت أصابعه مشدودة بها ؛ وإلى جواره عقرب سوداء تدوسها " بساطير " سوداء ؛ وعيون البوم والغربان تحملق في وجهٍ أغمض عينيه وابتسم …
(الحقوق محفوظة - أحمد محمد عبد الهادي أبو خضره)
عمان - القويسمة
صباح الأحد 18/ رجب /1421 هـ
الموافق 15/10/2000م