مع غروب الشمس … عاد الرجال يحملون ما بقي من أشلائه الممزقة … ويلقون بندقيته القديمة بين أيدي قريباته المفجوعات بمَصابهن الجلل … تلطم الأم خدها … تشق الزوج ثوبها ؛ ثم يعلوا النواح :
" طلت البارودة والسبع ما طل
يا بوز البارودة من الندى مبتل"
"يامرت السبع لا توخذي غيره
حِدّي عالسبع سبع سنين وعام "
أنظر إلى الشعور المنشورة والخدود المخمشة والجيوب المشقوقة … هذا ما لم أره من قبل أشعر بالخوف والأسى … أخرج من بين النسوة إلى حيث الرجال …
أحد الرجال : رحمة الله على الأسد … كان ذيب !! .
- المهم أننا بعتادنا القليل ، بالعصي ، بالحجارة ، بالمعاول ؛ دفعناهم عن
" سيل المقحز " … .
*****
… مع خيوط الفجر الأولى أستيقظ من نومي الهانئ ، أعمد إلى علبة وضعت فيها بضعة ديدان خضراء صغيرة ، وحملت فخاً … فسأصطاد اليوم عصافير جميلة … تقع عيني على جورب قديم … أحتفظ فيه بكراتي الزجاجية الملونة ؛ " الجلول والبنانير " .
… أشعر بالحيرة هل سأحمل الفخ والديدان ، أم آخذ البنانير والجلول ؛ لا بأس سآخذ معي كل شيء ، أنصب الفخ للعصافير قرب شجيرات الصبر الرائعة وأحذر من أشواكها الحادة وبنفس الوقت ألعب مع أقراني بالبنانير على مرمى حجر هناك تحت أشجار التين والزيتون والخروب ؛ سآكل ثمار الخروب مع أقراني ولن أضع بذورها داخل أذني كما فعلت يوما ما فلم ينقذني سوى الطبيب الذي أخذني إليه والدي في يافا … !! .
أمر من وسط سوق القرية المزدحم بالناس … منذ فترة طويلة وهو معطل بسبب الحرب ؛ أما الآن وقد عقدت الجيوش العربية الهدنة مع العدو ، فقد تنفس الناس الصعداء … هو ذا " سوق البَرَّين " يزدحم بالتجار يوم الجمعة ؛ البضائع ، الجمال ، الخيول ، الأبقار ،الأغنام … كل شيء … كأن الناس عصافير خرجت من وكناتها بعد يوم عاصف ومطير … .
تتقدم سيارة عسكرية تحمل علم إحدى الجيوش العربية وتدور لتتوسط السوق … ينزل منها ضابط جاد القسمات … يتحلق الناس حوله … وبعربية متقنة :
يا أهل القرية … يا أهل البلدة … لا تقلقوا سوف تأتي لكم خمس دبابات من جيشنا لتحمي بلدتكم فلا تخافوا … ولى زمن المقاومة بالمعول والمنجل والعصا …
… يهلل الناس فرحاً … ويعلو الهتاف والتصفيق …
أما الشيخ عثمان فيمضي ليهدم السلاسل الحجرية ويلقي بها في الطرقات المؤدية إلى مداخل القرية …
*****
يتوسط النذير السوق :
أيها الناس : العدو ، العدو ، إنها ليست دبابات العرب ، إنها للعدو … .
أطلقت النار على الرعاة والأغنام !! … .
أقبلت الدبابات كفكي كماشة واطبقت على القرية من الشمال والجنوب بينما كانت القوة الرئيسية تنقض على وسط البلد ...
… وكأن القيامة قامت وسط السوق … قذائف الهاون تسقط في كل مكان ... تتراكض الناس على غير هدى …
الشيخ عثمان يعمد إلى بندقية الصيد العتيقة … يحاول ولده محمد نزعها من يده … ينظر إليه بنظرة تشق الجبال ، ويضرب جدار البيت بيده :
- والله لا أخرج حتى أعطي الدار حقها … امض واحم البنات … .
ثلاث عشرة بندقية ، وبندقية الشيخ عثمان ، ورشاش واحد خفيف – جمعت كل القرية ثمنه ؛ ليقول التاجر اتفقنا على ثمن الرشاش أما الرصاص فحسابه غير – هذا كل عتاد القرية الصامدة … .
ينطلق الرجال إلى السلاسل الحجرية التي وضعوها على مداخل القرية ، يكمنون خلفها لجنود العدو … تحاول الحجارة والعصي وبنادق الصيد العتيقة الصمود …
- معي اثنا عشرة رصاصة ؛ لكل جندي رصاصة ، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً … .
كانت لصيد الظباء والأرانب واليوم هي لدفع الضباع ، قدرك أن تبقى صياداً يا شيخ عثمان !! … .
… يطلق على كل جندي نزل من دبابته ليرفع صخور السلاسل من الطرقات رصاصة واحدة … وتصب الدبابات حممها على مواقعه التي كان يتقافز رغم سنه المتقدمة خلالها متنقلاً من زاوية إلى أخرى … .
… يطلق الرصاصة الثانية عشرة … ويتقافـز الجنـود بكـل أسـلحتهم الناريـة والبيضـاء ليمزقـوا جثتـه محولين إياهـا إلـى لوحـة رائعـة من الفسيفساء … .
*****
تقتحم الدبابات وسط القرية من ثلاثة محاور ، تطلق النار على كل شيء ، الجنود يطاردون العزل … يعملون فيهم أسلحتهم تتهاوى الجمال بحمولتها حولي كأنها تماثيل حجرية تهاوت جراء زلزال ، وتسقط الأبقار تتشحط في دمائها … السوق العامر تحول فجأة إلى خراب … الناس يفرون في كل الاتجاهات فلا يجدون إلا الموت والقتل والفتك ؛ وحدها الجهة الشرقية كانت متروكة لهروب بقايا الناجين من المذبحة … الصراخ والعويل في كل مكان … ولا أحد يلوي على شيء ، أخذَ الناس على حين غرة … .
*****
تمشي الدبابات خلف الناس … تسوقهم كقطيع من الأغنام مطلقة نيران رشاشاتها الثقيلة لتعاقب كل من زلت به قدمه أو تأخرت في اللحاق بالشرق … .
تتنافض ذرات التراب عن الأرض جراء الرصاص الكثيف … فكأن الأرض سطح بحيرة أصابتها شآبيب المطر المنهمر … !!! .
لست أدري من ذاك الذي وضع فراشي على ظهر بقرتنا السوداء وأمسكني بخطامها … رغم أنني لم أتجاوز السادسة من عمري كنت حافياً أقود بقرتنا السوداء وأمسك بفراشي على ظهرها حتى لا يسقط ، وتمسك شقيقتي شبه العمياء – جراء الرمد – بملابسي ، وأهرب مع الهاربين … لم أكن خائفاً ، فلم أكن أعي حقيقة ما يحدث … فلا شيء يقلقني سوى أنني لا أعرف أين ذهب كل من والدي ووالدتي ,,, لكن الناس تصرخ وتتهاوى وتهرب … إذاً علي أن أهرب … !! .
… ينظر إلي عبد ربه وهو يقود جمله على عجل :
يا ولد … يا ابن أخي ، لا تمش على الطريق المسفلت … انزل إلى الطريق الترابي يا ولد …
… لم أكد أتجاوز الإسفلت إلى الطريق الترابي حتى كانت الدبابة تقف مكاني بالضبط لتصب جام غضبها على الحفاة العزل محولة إياهم إلى شيء ممزق كأنه العصف المأكول … .
*****
تئن الأرض تحت زخات الرصاص المحموم … مريم ؛ من شدة الخوف ، تركض بكل ما أوتيت من قوة … سائل ساخن يغمر فخذيها … يجيئها المخاض إلى تلك الصخرة … تتلوى من شدة الألم … تضعها … إنها أنثى … تلف حبلها السري على حَجَرٍ ثم تدقه بحجر آخر حتى تقطعه … تلفها بخرقة بالية … وتقوم بها مسرعة نحو الشرق دون راحة أو رضاع … تنظر الصغيرة نحو الغرب وتمص إبهامها لشدة الجوع ؛ آه يا مريم جف الضرع وانقلب اللبن دماً … .
*****
يجمع الجنود الناس في وسط القرية … الشيوخ والشباب يصفون في صف واحد ، وقبالتهم النساء والأطفال في صف آخر … يصطف الجنود أمام هذين الصفين … تحملق رشاشاتهم في وجوه الناس … ثم تنفجـر ناشـرة رعبها لترديهم قتلـى … .
… حتى أولئك الذين اختبأوا في المغاور والكهوف … أخرجوهم وصفوهم صفين ثم رشقوهم بالرصاص … فلم ينج من " طور الزاغ " إلا الذين تظاهروا بالموت … .
ينصرف الجنود من منطقة الزاغ … يزحف الرجل إلى ابنه الصغير … لا زال فيه رمق ، يحمله ويمضي به هارباً ، أما ابنته الصغيرة التي أصيبت ظنها ماتت ، ولم يعلم أنها فاقدة الوعي … مضى هارباً دون أن يجد ما يكفي من الوقت لدفنها وأمها … من يدري فقد تلتقي شقيقها بعد سنوات طوال … أو قد يبعث الله – سبحانه وتعالى – من ينجدها وذاك الرضيع الذي لا زال يمص ثدي أمه القتيل … فيختلط اللبن بالدماء … .
*****
يلتجئ الناس والشيوخ – الدراويش – إلى الجامع فلا أحد يقتل من التجأ إلى بيت الله !! … .
… يقتحم الجنود الجامع … يطلقون النار على كل من فيه … يصيح أحد الدراويش بملء صوته :
- يا حبيبي يا الله … .
يجيب الضابط بعربية ركيكة :
- موت خبيبي وروخ عند خبيبك الله … .
… يشعل الجنود النار في الجثث داخل الجامع … ثم ينصرفون إلى وسط القرية ، ليجمعوا جثث النساء والشيوخ والأطفال الذين هشموا جماجمهم أمام أمهاتهم بالهراوات والعصي الغليظة ، وليلقوا بها في بئر القرية … .
*****
عدد من الجنود يأسرون مجموعة من الفتيات … ويحملوهن في سيارة عسكرية إلى وسط الأودية والشعاب … أحد الشباب المنسحبين يتنبه لذلك … يكرّ من بين الشعاب والصخور على تلك السيارة … يطلق النار من بندقيته العتيقة نحوها ، ونحو الجنود ، والفتيات : الموت ولا المذلة … الموت ولا المذلة … .
تتوقف السيارة بسرعة … يقفز الجنود منها إلى خلف صخور قريبة يتمترسون خلفها … ويطلقون النار في كل اتجاه … تقفز الفتيات بسرعة من السيارة ، ويحاولن الهرب … يطلق الجنود النار عليهن ، وكذلك الشاب ؛ لم يكن من حيلة في يده لإنقاذهن من العار إلا بالرصاص … فتتعطر الأرض برائحة المسك … .
*****
يدخل الضابط ومعه زمرة من الجنود مدججين بالسلاح … الشيخ صالح يصلي وخلفه زوجته وأخته … يصرخ الضابط :
" يا ختيار وين عبد ربه " ؟ جاوبني
" أكيد معك فلوس كتير وين خبيتها "… .
… يستمر الشيخ بصلاته كأن لم يسمع شيئاً … يصرخ الضابط ثانية … دون جدوى … وبإشارة من يد الضابط ينطلق صوت رشاشات جنوده الغادرة ؛ ليمزق الرصاص جسد الشيخ والمرأتين من خلفه … يسقط الثلاثة … وينسحب الجنود … .
… يتحامل الشيخ صالح على جراحه … يزحف … يسحب جثة زوجته إلى حفرة كان قد جهزها كقبر له حتى لا يتعب الناس بدفنه يوم وفاته ؛ وكذلك إلى حفرة أخرى سحب جثة أخته الغالية … يتحجر الدمع في مقلتيه ويأبى أن ينسكب إلى لحيته البيضاء الكثة عبر تجاعيد وجهه المهيب ... يختبئ في العِليّة ، وجراحه ما زالت تنزف … .
مع المساء … يزمجر كلبه ويكشر عن أنيابه … .
يبدوا أن " الكلاب " قد عادت !! .
… يقفز الكلب بمرح ثم يحرك ذيله يميناً وشمالاً … إذاً فقد عاد عبد ربه … .
ينظر عبد ربه إلى بقعة الدم الكبيرة في وسط الدار وإلى قبرين حديثين … يصرخ : يا أبه … يا أبه … !! .
- هش … أنا بخير يا ولدي غير أن أمك وعمتك قضتا … احذر يا ولدي فأنا جريح … .
… يحمل عبد ربه الشيخ الجريح على ظهر جمله ، ثم يمضي به نحو الشرق ، تحت جنح الظلام … .
يخرج الشيخ صالح من القرية كخروج الروح من الجسد … فها هما الحزن والكمد يقتلان رجلاً عجزت زخات الرصاص عن قتله … .
*****
مع الصباح … الضابط البلجيكي ، ومعه مجموعة من مفتشي هيئة الأمم يخاطب الضابط الذي قاد المذبحة :
سمعت أن مذبحة رهيبة قد حدثت هنا … .
أبداً … لقد كانت معركة صغيرة بيننا وبين المتوحشين … .
لماذا تنسفون هذه البيوت ؟! … .
أبداً فيها بعض الحشرات !! … .
ما هذا الدخان المتصاعد من الجامع ؟! … .
هذا ليس دخاناً !! … .
… يحاول الضابط البلجيكي دخول الجامع … يعترضه قائد المذبحة …
ممنوع أن تدخل هذا الجامع فالمساجد مقدسة عند المسلمين … وأنت مسيحي ، ولا يجوز لغير المسلم أن يدخل المسجد … حرام !! … .
… يدور الضابط البلجيكي حول الجامع … ينظر من النافذة … جثث متفحمة ورائحة موت كريه … يحملق قائد المذبحة في وجه الضابط البلجيكي وفريقه ، ويتحلّق حوله مجموعة من الجنود أيديهم على السلاح … فينسحب الضابط البلجيكي بصمت … يملؤه اليقين بما حدث … .
*****
… لا زلت أركض هارباً … أجر بقرتي ، وشقيقتي التي أعماها الرمد تمسك ثيابي … .
أقف من شدة التعب بعيداً عن القرية … الكل يبحث عن الجميع … النساء ينحن على من فقدن منذ قليل :
عالدّوايمة نقّت النوبيـة **** البرن بتضرب والزلـم مرميه
عالدوايمة وانعق ياغراب***الشباب اتذبحت بأرض الخراب
عالدوايمة وازعق يانسر****الشباب اتذبحت بأرض الجسـر
أنتحي جانباً إلى مرتفع صغير … جرة فخار " غَزّيـّة " – مطلية بطبقة من الزجاج – أمامي … يتدفق من ثقب فيها زيت الزيتون إلى الأرض بشدة … وقفت أتأمل تلك الجرّة … لقد كانت والزيت يتدفق منها كطفل صغير صعد فوق تلة من تراب ثم قام يتبول على قارعة الطريق … ضحكتُ … ونسيت حينها ما كان خلفي … وقفت إلى جوارها … وقمت أفرغ ما في مثانتي على قارعة الطريق وأقهقه عالياً :
- تبقى الفخاخ مطمورة تحت الطمي والتراب … أما العصافير فتحلق عالياً … .
عمان - القويسمة
الاثنين 4/6/2007م
الساعة الثانية عشرة ليلاً
(الحقوق محفوظه - أحمد محمد عبد الهادي أبو خضره)